ومن الحق أن ننبّه إلى أن التشديد الذي احتوته الآية الثانية إنما هو في صدد التناصر والتولي أولا. وليس شاملا إلّا بالنسبة للظروف التي يكون فيها عداء وقتال بين المسلمين والكفار ثانيا. حيث ورد في القرآن آيات كثيرة تقرّ المسالمة والصلح بين المسلمين وغيرهم وتأمر بالاستقامة للمعاهدين ما استقاموا مما مرت الإشارة إليه في هذه السورة وفي سورة البقرة وفي سور أخرى على ما يأتي شرحه بعد.
وحيث ورد في سورة الممتحنة آيات تحثّ المسلمين على البرّ والإقساط لغيرهم الذين يوادونهم ويسالمونهم وتحصر النهي في الذين يقاتلون المسلمين ويظاهرون عليهم أعداءهم كما ترى فيها: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) .
والتنويه الذي احتوته الآية الثالثة قوي وعظيم. فالذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله دون تردد وتقصير والذين آووا المهاجرين ونصروهم وتضامنوا معهم وكبحوا جماع النفس ولم يدعوا لأي ميل وصلة سبيلا على أداء ما يجب عليهم من التضامن والتناصر والتواثق هم أولياء بعض حقا وهم المؤمنون حقا وهم أهل لتكريم الله ورضائه حقا. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل نفساني واجتماعي وإيماني مستمر المدى وقد تكرر ثناء القرآن وتنويهه بهم مما مرّ منه أمثلة في سورة البقرة ومما ورد أمثلة أخرى في سور أخرى يأتي تفسيرها بعد.
والفقرة الأولى من الآية الرابعة فتحت الباب لاندماج من يؤمن ويهاجر ويجاهد بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في صف المؤمنين المهاجرين المجاهدين السابقين. وهؤلاء وأمثالهم ممن عنتهم جملة وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ في آية سورة التوبة هذه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ... [١٠٠] وفي هذا تلقين جليل يتصل بتوطيد الأخوة بين المسلمين حينما يجتمعون في ساحة واحدة من الإيمان والهجرة