بهذه المناسبة على أننا لم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه يقول بنسخ هذا المبدأ ولو في حالة مثل الحالة التي ذكرت في الآية. بحيث يكون هذا أيضا محكما بالنسبة لهذه الحالة. ومن تحصيل الحاصل أن يقال: إن هذا لا يمنع المسلمين المعاهدين من بذل جهودهم مع معاهديهم لضمان حرية المسلمين وحقوقهم عندهم. لأن روح الآية تلهم أن التلقين قاصر على عدم نقض العهد كما تلهم أن على المسلمين مبدئيا نصرة إخوانهم الذين يستنصرون بهم حيث يوجب هذا عليهم بذل تلك الجهود.
وأسلوب الآية الثانية قويّ شديد. وهذا ما اقتضته على ما هو المتبادر ظروف نزولها حيث كانت الوشائج بين مسلمي قريش وكفارهم قويّة، بينما غدا العداء مستحكما شديدا بين المسلمين عامة وبين هؤلاء الكفار، بحيث كان أقل تهاون أو تسامح أو تفكك يسبب فسادا عظيما ويهدد مصلحة المسلمين بأشد الأخطار. وقد تكرر التشديد في هذا الأمر في آيات عديدة أخرى لأن الحالة ظلت تقتضي ذلك مثل آية سورة المجادلة هذه: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [٢٢] ومثل آية سورة التوبة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [٢٣] .
وفي الآيات الثلاث الأولى توطيد للوحدة الإسلامية التي جمعت بين المسلمين على اختلاف قبائلهم، وإقامتها مقام عصبية القبيلة والأسرة الضيقة التي كانت هي ضابط الحياة الاجتماعية العربية قبل الإسلام والتي كانت تؤدي إلى العداء والحروب بين القبائل لأتفه الأسباب. كما أن فيها تلقينا جليلا مستمر المدى بإيجاب كبح جماع النفس والهوى الخاص: الشخصي والأسروي والقبلي في مواقف النضال وجعل المصلحة العامة هي السائدة العليا وتضحية كل اعتبار في سبيلها.