تسري منه إلى غيره بأي شكل. ويكون مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فكان. وقد يكون من تلك الحكمة ما بين التقريرات القرآنية والأناجيل من تطابق حيث ينطوي في ذلك قصد الإفحام والإلزام. أما ما ليس متطابقا فهو من وجهة النظر الإسلامية محرّف والله تعالى أعلم. ولقد كان جمهور النصارى في بلاد الشام ومصر والعراق يدينون بمذهب لا يقول بالألوهية التامة لعيسى وبأنه بين بين من الناسوتية واللاهوتية وذو طبيعة واحدة مزيجة خلافا للسلطات الرومانية الحاكمة. وكان هذا الجمهور يتعرض لذلك لاضطهاد هذه السلطات. فلما جاءت جيوش الفتح الإسلامي إلى هذه البلاد أقبلت جماهير هذا المذهب على الصلح مع العرب. ولما عرفت ما في القرآن عن عيسى من كونه وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وأن الله نفخ في فرجها وجعلها وابنها آية للعالمين، وأن الله أرسل إليها روحه الذي تمثل لها بشرا ليهب لها غلاما زكيا وليكون آية للناس ورحمة منه. ومما جاء في بعض الآيات التي نحن في صددها وفي بعض آيات سورة مريم وسورة الأنبياء التي مرّ تفسيرها وفي الآية [١٧٠] من سورة النساء لمحت شيئا من التطابق بين ذلك وبين مذهبها فأقبلت على اعتناق الإسلام. وقد يكون ذلك من مظاهر أو نتائج تلك الحكمة والله تعالى أعلم.
وثانيا: قد تبدو الآية [٤٤] مشكلة لأنها تنبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ما يوحى إليه وخاصة في صدد ظروف ولادة مريم وكفالتها هو من أنباء الغيب. وإشكالها آت من ناحية ترجيحنا أن ما احتوته الآيات مما كان متداولا عند النصارى وغير مجهول عند العرب أو بعضهم. ولقد أشرنا إلى مثل هذا الإشكال في سياق تأويل الآية [٤٩] من سورة هود والآية [١٠٢] من سورة يوسف اللتين تذكران أن ما أوحاه الله إلى النبي من قصص هود ويوسف هو من أنباء الغيب وعلقنا على ذلك بما نرجو أن يكون فيه الصواب. وينسحب ما قلناه على هذه الآية ولا نرى أن نزيد عليه إلّا التنبيه على أن الروايات التي يرويها المفسرون عن ذلك تفيد أن ظروف ولادة مريم وكفالتها وما كان يجده زكريا عندها من رزق مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم