وثالثا: وقد يبدو ما ذكر في الآية [٥٥] من أن الله تعالى جاعل الذين اتبعوا عيسى عليه السلام فوق الذين كفروا به إلى يوم القيامة ثم يكون مصير المؤمنين به النعيم والكافرين به العذاب. والمتبادر أن ذلك إنما هو في صدد الذين اتبعوا رسالة المسيح بجميع محتوياتها ولم ينحرفوا عنها. ومن جملة ذلك وحدة الله عز وجل وتنزيهه عن كل نقص وشائبة وتجزّؤ وتعدّد بأي شكل. واعتراف المسيح بأنه عبد الله ورسوله. ودعوته إلى الله وحده وهو ما حكاه القرآن وما في الأناجيل من نصوص متطابقة مع ذلك صراحة وضمنا مما أوردنا نماذج منه في تفسير سورة مريم.
ومن جملة ذلك أيضا بشارة عيسى بالنبي محمد التي ذكرها القرآن في الآية [٦] .
ومن جملة ذلك كذلك ما في الإنجيل من صفاته مما أشير إليه في آية سورة الأعراف [١٥٧] التي تدعو أهل الإنجيل إلى اتباعه. ومقتضى كل ذلك أن يكون الذين يستحقون ذلك النعيم والتفضيل من أتباع عيسى هم الذين لم ينحرفوا عن رسالته إلى زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ثم آمنوا بهذا النبي واتبعوه. أما المنحرفون عنها قبل بعثة محمد والكافرون برسالة محمد فهم من وجهة نظر العقيدة الإسلامية كفار كما قررت ذلك آيات عديدة منها آيات النساء [١٥٠ و ١٥١] والمائدة [٧٢ و ٧٣] . ولقد قررت آية الأعراف [١٥٧] أن فريقا منهم اتبع النبي محمدا صلى الله عليه وسلم بعد أن ثبتت لهم صحة الدلائل المكتوبة عندهم على نبوّته كما قررت ذلك آيات عديدة وردت في سور سبق تفسيرها وسور يأتي تفسيرها بعد مثل آيات القصص [٥٢- ٥٥] والإسراء [١٠٧- ١٠٨] والرعد [٣٦] والمائدة [٨٢- ٨٥] وبهذا الشرح يزول كل إشكال.
وكلام المفسرين في هذه المسألة متطابق بالنتيجة مع هذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب. ولقد روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلّا كان من أصحاب النار»«١» . حيث ينطوي في الحديث تأييد نبوي لما قررناه.