أخرى من هذه السورة تأتي بعد قليل فيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بينهم بما أنزل الله ولا يتبع أهواءهم. وأن القضاء الإسلامي هو المختص بالنظر في قضايا أهل الذمة والمعاهدين من غير المسلمين الذين يعيشون في نطاق السلطان الإسلامي.
وقد قال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب أن حكم الآية ثابت لم ينسخ، وأن للحكام الخيار في الحكم وترك الحكم والنظر، وأن جملة فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ في الآيات الآتية ليست للنسخ وإنما هي للأمر بالحكم بينهم بما أنزل الله إذا اختار أن يحكم بينهم. وقد روى البغوي عن ابن عباس قولا بالنسخ ومن الأئمة من أخذ بهذا. ومنهم من أخذ بذاك ولقد قال الخازن إن مذهب الشافعي على أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه ونحن نرى في هذا الصواب. والله أعلم.
ويتفرع على هذا مسألة أخرى وهي كيفية حلّ قضايا المعاهدين والذميين فيما بينهم إذا لم يرفعوها للقضاء الإسلامي. وقد روى الطبري قولا للزهري جاء فيه «مضت السنّة أن يردوا في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم» وهذا القول متسق مع فحوى وروح الآية الأخيرة من الآيات كما هو المتبادر. حيث يفيد هذا أن للمعاهدين والذميين أن يرفعوا قضاياهم المدنية إلى رجال القضاء فيهم. وبكلمة أخرى يكون قضاؤهم هو المختص في قضاياهم إذا لم يرفعوها إلى حكام المسلمين. وهذا ما عليه الجمهور. وتظهر فيه روعة الشريعة الإسلامية في مراعاتها حرية العقيدة الدينية. فهي لا تكره أحدا على الإسلام. ولا تكره أحدا من الذين يخضعون للسلطان الإسلامي من غير المسلمين على التقاضي إلى قضائه.
وفي الآيات التالية توجيه بإيجاب أن يكون قضاؤهم مستمدا من التوراة والإنجيل على ما سوف نشرحه بعد.
وجملة وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ قد تكون تضمنت قرينة على ما ضمناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سياق الآية [١٥٧] من سورة الأعراف بأن سفر الشريعة الذي كتبه موسى واحتوى تبليغات الله ووصاياه والذي