والمتمعن في نصوص الآية الأولى بخاصة يجدها كما قلنا قبل قوية التأييد للرأي القائل أن المسلمين ليسوا مقيدين بأحكام وشرائع الكتب السابقة وإنما هم مقيدون بأحكام القرآن الذي أنزله الله على رسولهم. وقد قال رشيد رضا في تفسيره في سياق تفسير هذه الآية إنها نصّ صريح على أن (شرع من قبلنا ليس شرعا لنا) خلافا لمن قال بذلك محتجين بقوله تعالى شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ سورة الشورى: [١٣] وبقوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ الأنعام [٩٠] ثم أخذ يبين ما في الاحتجاج بذلك من مآخذ بإسهاب فيه كل القوة والوجاهة والسداد.
أما واجب المسلمين تجاه الكتب السماوية السابقة فينحصر في الإيمان بما أنزل الله من كتاب وبوحدة المصدر والأهداف الرئيسية التي تجمع بين الكتب التي أنزلها الله سابقا وبين القرآن في نطاق ما شرحناه في سياق تفسير آية الشورى [١٥] التي تأمر النبي بأن يقول آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وآية العنكبوت [٤٦] التي تأمر المسلمين بأن يقولوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.
وقد ترد ملاحظة في صدد هذه الآيات من ناحية أخرى وهي أن في هذه الآيات وما قبلها إقرارا لأحكام التوراة والإنجيل بالنسبة لليهود والنصارى على الأقلّ أولا وتقريرا بأنها نافذة الحكم بعد البعثة النبوية ثانيا. وبأن الذين يسيرون وفقها هم على حقّ وهدى ثالثا. وقد يكون في هذا نقض لدعوة القرآن لليهود والنصارى إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم والسير وفق ما أتي به من أحكام وشرائع رابعا. وجوابا على هذا نقول إن الآيات هي في صدد مشهد قضائي دار فيه جدل ودسّ وتهويش. وليست بسبيل تقرير أمور تتعلق بالدعوة المحمدية. وقد جاءت لهذا بالأسلوب الذي جاءت به لتتسق مع مقتضيات ذلك المشهد. بحيث يصح القول إن الآيات في مقامها هي في صدد شؤون قضائية متصلة بما يقوم بين الناس