للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ابْتِدَاءً كَمَا فِي الْمُحِيطِ وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فِي حَقِّ كَافِرٍ فَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ الْحُكْمِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَيَنْفُذُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ وَقِيلَ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَيْضًا كَذَا فِي الْمُحِيطِ وَلِهَذَا قَالُوا لَوْ صَلَحَ الْمُحَكَّمُ قَاضِيًا وَلَمْ يَقُولُوا لَوْ صَلَحَ شَاهِدًا؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يُشْتَرَطُ صَلَاحِيَّتُهُ وَقْتَ التَّحَمُّلِ وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ وَقْتَ الْأَدَاءِ فَقَطْ، وَأَمَّا الْقَاضِي وَالْمُحَكَّمُ فَتُشْتَرَطُ وَقْتَ التَّقْلِيدِ وَالْقَضَاءِ كَمَا عَلِمْته وَزَادَ الْحُكْمُ اشْتِرَاطَهَا فِيمَا بَيْنَهُمَا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَسَائِلِ الْمُخَالِفَةِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَحْكُومِ بِهِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي حَدٍّ وَقَوَدٍ.

وَصِفَتُهُ قَبْلَ الْحُكْمِ الْجَوَازُ وَبَعْدَهُ اللُّزُومُ وَجَوَازُهُ بِالْكِتَابِ {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: ٣٥] وَفِيهِ نَظَرٌ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِهِ وَوَجْهُهُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُحَكِّمَيْنِ لَمْ يَتَرَاضَيَا عَلَيْهِ خُصُوصًا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فَابْعَثُوا عَائِدٌ إلَى الْحُكَّامِ الْعَائِدِ إلَيْهِمْ ضَمِيرُ فَإِنْ خِفْتُمْ وَلِأَنَّ الْحَكَمَ عِنْدَنَا إنَّمَا يَصْلُحُ فَقَطْ وَلَيْسَ لَهُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ فَهُوَ وَكِيلٌ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.

وَبِالسُّنَّةِ كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ «قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ قَوْمِي إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ فَأَتَوْنِي فَحَكَمْت بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ عَنِّي الْفَرِيقَانِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا أَحْسَنَ هَذَا» وَأُجْمِعَ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمِلَ بِحُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا اتَّفَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى الرِّضَا بِحُكْمِهِ فِيهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَى أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ مُنَازَعَةٌ فِي نَخْلٍ فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَأَتَيَاهُ فَخَرَجَ زَيْدٌ فَقَالَ لِعُمَرَ هَلَّا بَعَثْت إلَيَّ فَأَتَيْتُك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ عُمَرُ فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ قَدْ خَلَا بَيْتُهُ فَأَلْقَى لِعُمَرَ وِسَادَةً فَقَالَ عُمَرُ هَذَا أَوَّلُ جَوْرِك وَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ زَيْدٌ لِأُبَيٍّ لَوْ أَعْفَيْت أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ عُمَرُ يَمِينٌ لَزِمَتْنِي فَقَالَ أُبَيٌّ نُعْفِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَنُصَدِّقُهُ وَلْيُعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِأَحَدٍ مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ التَّلْبِيسُ وَإِنَّمَا هِيَ لِاشْتِبَاهِ الْحَادِثَةِ عَلَيْهِمَا فَتَقَدَّمَا إلَى الْحُكْمِ لِلتَّبْيِينِ لَا لِلتَّلْبِيسِ وَفِيهِ جَوَازُ التَّحْكِيمِ وَإِنَّ زَيْدًا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفِقْهِ وَظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَضَاءِ أَنَّ الْحُكْمَ مِنْ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي الْمُوَلَّى اهـ.

فَعَلَى هَذَا إذَا رَفَعَ حُكْمَهُ إلَى قَاضٍ لَا يَرَاهُ أَمْضَاهُ فَلْيَحْفَظْ وَفِي الْمُحِيطِ الْإِمَامُ الَّذِي اسْتَعْمَلَ الْقَاضِي أَمَرَ رَجُلًا مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَازَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي الْمُوَلَّى وَلَوْ أَمَرَ الْقَاضِي رَجُلًا أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لَمْ يَجُزْ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا بِالِاسْتِخْلَافِ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْقَاضِي بَعْدَ الْحُكْمِ أَوْ يَتَرَاضَى عَلَيْهِ الْخَصْمَانِ كَذَا فِي الْمُحِيطِ وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يَخْتَلِفُ إلَيْهِ وَيَأْخُذُ بِرِكَابِهِ عِنْدَ رُكُوبِهِ وَقَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَصْنَعَ بِفُقَهَائِنَا فَقَبَّلَ زَيْدٌ يَدَهُ وَقَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَصْنَعَ بِأَشْرَافِنَا وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَكُونُ قَاضِيًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى الْعِلْمِ يَأْتِي إلَى الْعَالِمِ فِي بَيْتِهِ وَلَا يَبْعَثُ إلَيْهِ لِيَأْتِيَهُ وَإِنْ كَانَ أَوْجَهَ النَّاسِ.

وَأَمَّا إلْقَاءُ زَيْدٍ الْوِسَادَةَ فَاجْتِهَادٌ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ» «وَبَسَطَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِدَاءَهُ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ» وَأَنَّ الْخَلِيفَةَ لَيْسَ كَغَيْرِهِ وَاجْتِهَادُ عُمَرَ عَلَى تَخْصِيصِ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ عُمُومِ الْأَوَّلِ وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْحَلِفِ صَادِقًا وَامْتِنَاعُ عُثْمَانَ حِينَ لَزِمَتْهُ كَانَ لِأَمْرٍ آخَرَ وَأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا وَتَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ تَبَعًا لِمَا فِي النِّهَايَةِ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ وَبَعْضُ عُلَمَائِنَا كَانُوا يَقُولُونَ أَكْثَرُ قُضَاةِ عَهْدِنَا فِي بِلَادِنَا أَكْثَرُهُمْ مُصَالِحُونَ؛ لِأَنَّهُمْ تَقَلَّدُوا الْقَضَاءَ بِالرِّشْوَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ حَكَمًا بِتَرَافُعِ الْقَضِيَّةِ إلَيْهِمْ وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الرَّفْعَ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ التَّحْكِيمِ بَلْ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ قَاضٍ مَاضِي الْحُكْمِ وَرَفْعُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ قَدْ يَكُونُ بِالْإِشْخَاصِ وَالْجَبْرِ فَلَا يَكُونُ حَكَمًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي ابْتِدَاءً لَكِنْ إذَا تَقَدَّمَ بَيْعٌ بَاطِلٌ أَوْ فَاسِدٌ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ التَّعَاطِي لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ لِكَوْنِهِ عَلَى سَبَبٍ آخَرَ كَذَا هُنَا وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ الْقَاضِي النَّافِذُ حُكْمُهُ أَعَزُّ مِنْ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ اهـ.

وَذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ فِي الطَّبَقَاتِ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ الدَّامَغَانِيَّ تِلْمِيذُ الطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ لَمَّا تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِوَاسِطٍ كَانَ يَقُولُ لِلْخَصْمَيْنِ أَنْظُرُ بَيْنَكُمَا فَإِنْ قَالَا نَعَمْ نَظَرَ وَتَارَةً يَقُولُ أَحْكُمُ بَيْنَكُمَا اهـ.

(قَوْلُهُ حَكَّمَا رَجُلًا لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا فَحَكَمَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ

ــ

[منحة الخالق]

(قَوْلُهُ كَانَ يَخْتَلِفُ إلَيْهِ) أَيْ إلَى زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَرَأَيْت بِخَطِّ شَيْخِ مَشَايِخِنَا مُنْلَا عَلِيٌّ التُّرْكُمَانِيُّ أَمِينُ الْفَتْوَى بِدِمَشْقَ عَلَى هَامِشِ نُسْخَتِهِ الْبَحْرِ الَّتِي بِخَطِّهِ أَنْشَدَنِي أَخُونَا الْفَاضِلُ الْمُحَدِّثُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْكَرِيمِ الشَّرَابَاتِيُّ قَالَ أَنْشَدَنِي الشَّيْخُ عَلِيٌّ الدَّبَّاغُ الْحَلَبِيُّ بِأُمَوِيِّ حَلَبَ

خِدْمَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ مَسْنُونَةٌ ... قَدْ سَنَّهَا آلُ النَّبِيِّ النِّجَابُ

هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى فَضْلِهِ ... أَمْسَكَ مِنْ بَغْلَةِ زَيْدٍ الرِّكَابَ

(قَوْلُهُ وَاجْتِهَادُ عُمَرَ) أَيْ حَيْثُ جَعَلَ إلْقَاءَهُ الْوِسَادَةَ جَوْرًا وَالْمُرَادُ بِالْحَالَةِ حَالَةُ الْحُكُومَةِ وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ الْحَدِيثُ السَّابِقُ

<<  <  ج: ص:  >  >>