وروى الخطيب بسنده عن يحيى بن صالح أنه قال: قال لي ابن أكثم: قد رأيتُ مالكًا وسمعتُ منه، ورافقت محمد بن الحسن فأيهما كان أفقه؟ فقلت: محمد بن الحسن (فيما يأخذ لنفسه)، أفقه من مالك.
وقال الذهبي: انتهت إليه رئاسة الفقه بالعراق بعد أبي يوسف، وتفقه به أئمة وصنفت التصانيف، وكان من أذكياء العالم، وكان محمد بن الحسن - رحمه الله - ذكيّا متقد الذهن، سريع الخاطر، قوي الذاكرة، وثابة إلى المعالي، جميل الخَلْق والخُلُق للغاية، سمينًا خفيف الروح، ممتلئًا صحة وقوة.
نشأ في بلهنية العيش ببيت والده السري المثري بالكوفة، ولما بلغ سن التمييز تعلم القرآن الكريم، وحفظ منه ما تيسر له حفظه، وأخذ يحضر دروس اللغة العربية والرواية، وكانت الكوفة إذ ذاك مهد العلوم العربية، ودار الحديث والفقه منذ نزلها كبار الصحابة، واتخذها علي بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - عاصمة الخلافة.
ولما بلغ سِنهُ أربع عشرة سنة حضر مجلس أبي حنيفة ليسأله عن مسألة نزلت به، فسأله قائلًا: ما تقول في غلام احتلم بالليل بعد ما صلى العشاء، وهل يعيد العشاء؟ قال: نعم، فقام وأخذ نعله وأعاد العشاء في زاوية المسجد، وهو أول ما تعلم من أبي حنيفة، فلما رآه يعيد الصلاة أعجبه ذلك، وقال: إن هذا الصبي يفلح إن شاء الله تعالى، وكان كما قال.
ثم ألقى الله سبحانه في قلبه حب التفقه في دين الله بعد أن رأى جلال مجلس الفقه فعاد إلى المجلس يريد التفقه، فقال له أبو حنيفة: استظهر القرآن أولًا؛ لأن المتفقه على طريقة أبي حنيفة في حاجة شديدة إلى ذلك لأنه ما دام الاحتجاج بالقرآن ميسورًا لا يعدل عنه إلى حجة سواه، وله المنزلة الأولى في الحجة عنده حتى أن عموماته قطعية فيما لم يلحقه تخصيص فغاب سبعة أيام ثم جاء مع والده، وقال: حفظته، وسأل أبا حنيفة عن مسألة، فقال له أبو حنيفة: أخذت هذه المسألة من غيرك أم أنشأتها من نفسك؟ فقال: من عندي، فقال أبو حنيفة: سألت سؤال الرجال، أدم الاختلاف إلينا وإلى الحلقة.