قال ابن بطال: بدليل أنه لم يرحل ما عقده إلا بموافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ولو أراد الردة فيها لقتله إذ ذاك، وحمله بعضهم على ذلك من المقام بالمدينة فأبى، أي: امتنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإِقالة ثم جاءه أي: ثانية فقال: أقلني بيعتي، فأبى، أي: امتنع ثم جاءه ثالثة فقال: أقلني بيعتي، فأبى، أي: امتنع أن يقيله؛ لأنها إن كانت بعد الفتح فهي على الإسلام فلم يقله؛ لأنه لا يحل الرجوع على الكفر وإن كانت قبله فهي على الهجرة والمقام معه بالمدينة ولا يحل للمهاجر أن يرجع إلى وطنه. كذا قاله عياض، وردَّه الأبي فقال: الأظهر أنها على الهجرة لقوله: دعك، ولو كانت على الإِسلام كانت ردة؛ لأن الرضى بالدوام على الكفر كفر انتهى. فخرج الأعرابي، أي: من المدينة إلى البادية؛ لأنه كان ممن قال تعالى في حقه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}[الحج: ١١] فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن المدينة كالكير أي: ككير الحداد، وهو بكسر الكاف وسكون التحتية فراء أي: المبني من الطين، وقيل: الزق الذي ينفخ فيه النار والمبني المكور. كذا في (النهاية) تنفي بفتح الفوقية وسكون النون وبالفاء أي: تزيل خبثها، (ق ٩٢٠) بفتح الخاء المعجمة الموحدة والمثلثة أي: وسخها وقذرها، ويرى بضم الخاء وسكون الموحدة أي: الشيء الخبيث والأول أشبه لمناسبة الكير وينصَعُ بفتح التحتية وسكون النون وفتح الصاد وعين المهملة من النصوع، وهو الخلوص أي: يخلص طيبُها" بكسر الطاء المهملة وسكون التحتية المخففة منصوب على أنه مفعول ينصع، وفي رواية: طيّبها بتشديد التحتية المكسورة مرفوع على أنه فاعله.
قال الأبي: وهي الرواية الصحيحة وهو أقوم معنى؛ لأنه ذكره في مقابلة الخبيث، وأي مناسبة بين الكير والطيب شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وما يصيبها ساكنها الجهد بالكير وما يدور عليه بمنزلة الخبيث من الطيب، فيذهب الخبيث ويبقى الطيب، وكذلك المدينة تنفي شرارها بالحمى والجوع وتطهر خيارها وتزكيها. انتهى. كذا قاله الفاضل السيد محمد الزرقاني.
والمعنى: يخرج من المدينة من لم يخلص إيمانه ويبقى من يخلص إبقائه وهذا الحديث أخرجه البخاري في الأحكام عن القعنبي وعبد الله بن يوسف، وفي (الاعتصام) عن إسماعيل ومسلم في الحج عن يحيى الأربعة عن مالك به، وتابعه سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر، عند البخاري، وبنحوه وفيه إيماء إلى قوله تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ