تحت نظر هذه الإدارة التي حرمت العلماء والطلبة من حقوقهم المنصوص عليها في الوقفيات، واكتفت بمن بقي منهم تحت رحمتها فخصصت لهم رواتب رسمية من ميزانية الإدارة العامة وليس من إدارة أوقاف مكة والمدينة أو أوقاف المعالم الإسلامية الأخرى. واستغنت عن تدريس المساجد بدروس المدرسة الرسمية (الشرعية - الفرنسية)، وفصلت القضاء عن الدين والتعليم. وهكذا جفت ينابيع العلم الحر وغاضت بحور الفكر. وكاد هذا الليل الطويل ألا ينجلي لولا نفحة هبت من الغرب، ونعني بذلك حلول عبد القادر المجاوي للتدريس في أحد المساجد بقسنطينة. وبعد أن قضى المجاوي في المسجد ثلاث سنوات، عين في المدرسة الشرعية - الفرنسية، ولكن إشعاعه لم يقتصر على هذه المدرسة.
وخلال الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الماضي ظهر إلى جانب المجاوي (في المدرسة)، حمدان الونيسي ومحمد الصالح بن مهنة. وكلاهما كان مدرسا رسميا في أحد المساجد، ولكنهما استطاعا أن ينشرا العلم في الناس رغم العراقيل وأن يجعلا من المسجد مدرسة عليا على الطريقة القديمة. حقيقة أن السلطات الفرنسية كانت تراقب هذا التعليم ولا تريده أن يتجاوز مبادئ الفقه والتوحيد الموجهة للعامة، ولكن المدرس الماهر ذا الضمير الحر يستطيع أن يوصل رسالته إلى التلاميذ النبهاء والحاضرين المتطلعين. وهكذا كان الونيسي وابن مهنة منذ عقد الثمانينات. وقد أثر ابن مهنة أيضا بمؤلفاته (١) وسمعته كمتخرج من الأزهر الشريف، وسنعرض لحياته في فصول أخرى، وكذلك مؤلفاته. أما حمدان الونيسي فقد أفردناه
(١) اشتهر أيضا بموقفه من الأشراف وإثارة زوبعة ضده تولاها الشاعر عاشور الخنقي وآخرون. وله آراء بثها بطريقة غير مباشرة في تعاليقه على رحلة الورتلاني التي نشرها بتونس. وله مواقف أخرى سنعرض إليها. وما يؤسف له هو أن البطاقات التي جمعت حوله وحول الشيخ حمدان الونيسي قد ضاعت منا سنة ١٩٨٨، ولم نعوض منها إلا القليل. وكان الشيخ عاشور الخنقي قد افتتح التدريس الحر في قسنطينة أيضا. انظر عنه فصل الشعر.