ومن هؤلاء المكي بن باديس القسنطيني الذي عاصر الاحتلال في عنفوانه، ولد حوالي سنة ١٨٢٠ بقسنطينة، وكان في أول أمره مساعدا في المكتب العربي بقسنطينة لمحمد الشاذلي، القاضي عندئذ، وقد تخرج على بقايا علماء قسنطينة الذين ذكرهم أبو القاسم الزياني في رحلته والذين عاصروا حكم الحاج أحمد، فكانت فيه بقية علم ودراية بالإضافة إلى ماضيه العائلي في المدينة وفي التاريخ، وقد رأيناه قاضيا أيضا في وادي العثمانية في الستينات (١). وبحكم اختلاطه بالفرنسيين كان يتكلم الفرنسية، ويذهب السيد كريستلو الذي درس حياته، إلى أن المكي بن باديس كان عصامي الثقافة والتكوين، وقال عنه إنه بالمقارنة إلى حسن بن بريهمات لا يمكن تسميته بالمفكر أو المثقف الحر، ولا تسميته بالعصري، وهي الصفة التي تنطبق على بريهمات أكثر من ابن باديس، وكان ابن باديس مستعدا لتقبل التأثير الفرنسي في الميادين الزراعية والمادية، ولم يكن أيضا تقليديا بل كان يقبل بالتغيير في حدود، وكان المكي بن باديس غير مرتاح للمدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث ويفضل عليها تعليم الزوايا وخريجيها.
تولى ابن باديس القضاء فترة طويلة (١٨٥٦ - ١٨٧٦) معظمها في قسنطينة وضواحيها، وأصبح متكلما سياسيا وداعية صحفيا، وكان من القلائل الذين تفطنوا لأهمية الصحافة والإشهار في خدمة القضية التي ينافح عنها، وكان مستعدا للمساومة في الشؤون السياسية والاقتصادية ولكنه غير مستعد لذلك بالنسبة للشؤون الدينية، وقد كتب مرة أن هناك ثلاثة أمور تقرر مصير الإنسان، وهي الاعتداء على ثروته الدنيوية، والاعتداء على بدنه، والاعتداء على دينه، وأخف هذه الاعتداءات هو الأول وأوسطها الثاني، ولكن أخطرها هو الاعتداء الثالث لأنه اعتداء على ما هو مقدس عند الضمير الإنساني، وهكذا ظهر ابن باديس غير مساوم في الشؤون الدينية.
(١) ذكر مرة على أنه قاضي الفحص، مع الشيخ محمد بن عزوز.