فإننا نجد أن شعر الإخوانيات قد سيطر على البيئة، فالشعراء كانوا يتبادلون المدح والنكت وحتى الهجاء والفخر، والعجيب أن شعر الرثاء قليل جدا رغم العاطفة القوية التي يتميز بها الناس عند فقد الأقارب والأحبة والشيوخ، كما أن شعر المجون قليل، ولكن لا غرابة في ذلك فإن المجتمع على العموم مجتمع منقبض قاس على نفسه، تقل فيه الطرف والنكت والشعر الخفيف، وقد عرفنا أن المرأة كانت في المقام الثاني وكانت مشاركتها قليلة في الظاهر، فلم تدخل ميدان الشعر الاجتماعي لا منتجة ولا موضوعا.
[المجون والمزاح]
ويبدو أن محمد بن أحمد بن راس العين، الذي لا نعرف عنه إلا القليل والذي كان محل تقدير الشعراء والعلماء، ممن اشتهر بشعر المجون، ففي الوقت الذي كان فيه الفقهاء يلعنون شجرة الدخان ويفتون بعدم شربها أو تدخينها، كان ابن رأس العين يسخر من فتاواهم ويخاطب (التباغة) كما يخاطب الخمر المحرمة، وينادي النادل أن يسقيه إياها في غليون ممتاز لأن شربها في الليل في جلسات السمر مع الإخوان ينعش النفس والفؤاد، وهو يقول للنادل إن الفتوى بعدم شربها كلام باطل، وإنها عنده حلال طيب، وأن ضوءها يغني عن الصباح، وإن تعاطيها لا يفسد العقل كما يزعمون، وأن من لم يشربها لا يدرك حقيقتها.
اسقنيها تباغة تجلا ... في حلى السبسى
شربها في الدجا مع الإخوان ... جالب الأنس
اسقنيها ودع كلام السلاح ... فهو عندي محال
لا تعطل شرابها يا صاح ... فهي عندي حلال
شمعها يغني عن الصباح ... في ظلام الليال
شربها ليس يفسد العقلا ... لذوي الحس
كل من ذم شربها جهلا ... فهو في بخس (١)
(١) كان ابن رأس العين حيا سنة ١٠٥٨ كما وجدناه على بطاقة من (رقم الحلل) لابن الخطيب من أنه من نسخ هذا الشاعر. انظر مكتبة رضوان، المكتبة الوطنية - تونس، =