ومهما قيل في هذه الحركة العلمية الواردة من المغرب أو من المشرق فإنها كانت في جملتها بركة على الجزائر. فكل عالم كان مدرسة متنقلة ومكتبة مفتوحة. وحركتهم كانت تشكل ما نسميه اليوم بوسائل الإعلام وتبادل الخبراء والكتاب ونحو ذلك من وسائل الاتصال العلمي. وكما كان الجزائريون يهاجرون من أجل العلم ليأخذوه في الأماكن البعيدة كانوا أيضا يرحبون بالعلماء الوافدين ويهرعون للأخذ عنهم والاستماع منهم في شوق وشغف. وهذا التلاقح في الأفكار والاتصال المستمر هو الذي أدى إلى نوع من التحديات الفكرية بين الجامدين والمتحررين ظهرت أحيانا في شكل مناظرات وأخرى في شكل نقد لاذع لأحوال الفكر عموما.
[من قضايا العصر]
في عصر ضمرت فيه الحركة الفكرية، ماذا ننتظر أن تكون القضايا التي تشغل بال العلماء وتثير نقاشهم وخصوماتهم؟ والواقع أن معظم العلماء، كما عرفنا، كانوا في شغل شاغل عن القضايا الفكرية، فهم كانوا في منافسة كبيرة على الوظائف مع ما يتطلب ذلك من الاكتفاء بالقليل من العلم والجهد في تحصيله. فالوسائل المادية ونحوها هي التي كانت تؤهلهم لتلك الوظائف وليس الكفاءة العلمية والتفوق الفكري. وسنرى أن من وسائل الحرب التي كانت تدور بينهم اتهام بعضهم البعض بالزندقة والخروج عن الجماعة والاعتزال. وقد كان (الالتزام) بما قاله السلف والاحتفاظ به على علاته أفضل عند هؤلاء من دعوة الاجتهاد وحرية الفكر ونقد الماضي.
غير أن بعض العلماء كانوا يقومون برسالة هامة في المجتمع ونعني بذلك إصلاح ذات البين، ولا سيما في الأرياف، وتوعية العامة بقواعد الشرع وأحكامه الصحيحة، والعامة كانت مقلدة ولا تثق في الحكام بقدر ما كانت تثق في العلماء والمرابطين، ولذلك كان دور هؤلاء عظيما بين العامة. ولما كانت السلطة السياسية في بعض المناطق شبه معدومة فقد كثرت النزاعات