وواضح أن نهاية رأى الأهالي في الحكم الفرنسي ترجع إلى القضاء والقدر أيضا. والفرنسيون يعرفون ذلك ويبنون عليه تمديد بقائهم بالخرافة والعلم والتسلط. إنهم يعرفون مشاعر المسلمين ومدى الهوة التي تفصلهم عنهم، ولذلك كانوا يعملون على تأجيل قرار زعماء الصوفية وتحويله إلى قرار قدري ليس في أيديهم ولكن في يد سلطة أعلى منهم.
ويبدو لنا أن فهم ديبارمي للنفسية الأهلية أصدق وأعمق ربما من فهم ألفريد بيل وأوغسطين بيرك ولويس ماسينيون وأضرابهم ممن كانوا مهتمين فقط بالشرائح الاجتماعية القريبة منهم كالاندماجيين والبرجوازية والإقطاعيين. وديبارمي كان يعرف أن المداح الشعبي ومجالس الصوفية إنما هي رموز على مدلولات خفية، وأن الحقيقة كانت وراء ذلك. وأن هناك أسلوبا حكيما في التقية والتورية، سواء باستعمال ألقاب الصوفية أو استعمال الفوارس والأبطال في التاريخ القديم (١).
لم يكن الفرنسيون يحضرون فئة معينة لتولي الحكم في الجزائر بدلهم ذات يوم. كانوا يعتقدون أنهم خالدون وأن الجزائري سيظل خديمهم إلى الأبد. وإنما كانوا يستعملون الحيل والتسويف والقمع والتقسيم للإبقاء على قبضتهم. وبذلك ساهموا في توحيد الجزائريين، على عكس مقصودهم، لأن الفلاح والعامل والمثقف والسياسي ورجل الدين كلهم تيقنوا أن الفرنسيين كانوا يعاملونهم على حد سواء وهو حرمانهم من الهوية الوطنية ومن حق التمتع بالحرية.
[(فرق تسد)]
استعمل الفرنسيون سلاح تقسيم الجزائريين بكل مهارة. وتطور استعمال هذا السلاح عندهم مع الزمن. فكان لكل ظرف وكل عهد سلاحه
(١) عالج ديبارمي هذه الرموز وأناشيد المداح (القوال) في عدة أعمال نشرها. كما اهتم بالحركة الوطنية والإصلاحية بالخصوص.