قلنا إن القادة الفرنسيين الأوائل قد نفوا وعزلوا عنهم حتى أخلص الجزائريين إليهم، أولئك الذين انبهروا بهم وظنوا بهم خيرا، أمثال حمدان خوجة وأحمد بوضربة. ثم نفوا غيرهم أو سرحوهم إلى فرنسا للتأثير عليهم هناك والتخلص منهم في الجزائر، أمثال مصطفى بن عمر وحمدان بوركايب ومصطفى كريم. ولكن بعد الاستقرار النسبي أخذوا يسفرون الأعيان من الجزائريين الموالين لهم ليزوروا فرنسا فترة معينة كالشهر، ثم يعيدونهم إلى الجزائر وإلى وظائفهم وعائلاتهم ليتحدثوا بالنعمة التي تمرغوا فيها والعجائب التي شاهدوها. ويستتبع ذلك بدون شك الأثر النفسي في أشخاصهم. وقد بدأت هذه العمليات الدورة منذ عهد كلوزيل الثاني، أي ١٨٣٦. واستمرت وتضاعفت في عهود لاحقة حين أصبحت المناسبات الرسمية هي الدافعة إلى ذلك مثل أعياد جلوس الحكام، ومعارض باريس، والمناسبات القومية. وكان الإعلام الفرنسي يسمي هذه الزيارات المنظمة التعرف على (الكرم والسخاء) الفرنسي، الذي ينافس الكرم العربي
[الزيارات المنظمة لباريس وفكرة المعهد العربي]
وتحدثنا المصادر الفرنسية عن زيارة وفد من الأعيان ومن الأطفال أيضا، إلى باريس سنة ١٨٣٨. وقد استقبل الأعيان استقبالا يليق بالكرم الفرنسي المتناسب مع الكرم العربي، حسب تعبيرهم. ومن الأعيان المشار إليهم أناس ربطوا مصيرهم بالسلطات المحتلة دون وعي تاريخي ولا يقظة دينية، ومنهم (الجنرال) مصطفى بن إسماعيل زعيم الدوائر والزمالة الذي كان قد رفض مبايعة الأمير عبد القادر وحارب في صفوف الفرنسيين ضده. وهو شيخ كبير السن وفارس مغوار قضى عمره في خدمة الحكم العثماني (المخزن). وقد ولاه الفرنسيون على تلمسان بعض الوقت قبل رجوعها إلى الأمير بمقتضى معاهدة التافنة. ومن زملائه في هذا (الميعاد) الحاتمي الفرنسي مصطفى بن المقلش، وهو أيضا من أصحاب النفوذ في العهد العثماني وانضم إلى الفرنسيين. وقد رافقهما إلى فرنسا عدد آخر.