نقصد هنا بالعلوم الشرعية الدراسات القرآنية كالتفسير والقراءات، والحديثية كرواية الحديث ودرايته، بما في ذلك الأثبات والإجازات، والفقهية من العبادات والمعاملات كالنوازل. وقد كثرت هذه الدراسات بين الجزائريين خلال العهد العثماني حتى أنه يمكن القول بأن أغلب إنتاج الجزائر خلال هذا العهد يكاد ينحصر في العلوم الشرعية والصوفية والمجالات الأدبية. ورغم أن معظم الإنتاج في العلوم الشرعية كان يفتقر إلى الأصالة والجدة، فإن كثرة التأليف فيه يبرهن على سيطرة العلوم المذكورة على الحياة الفكرية عندئذ. ولا شك أن ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى كون القرآن والحديث كانا المنبع الذي يستمد منه الجزائريون كل ألوان تفكيرهم وأنماط حياتهم.
وأهم ما تميزت به العلوم الشرعية في هذا العهد التقليد والتكرار والحفظ. فالفقهاء قلما اجتهدوا أو استقلوا بآرائهم، بل كانوا يقلدون سابقيهم تقليدا يكاد يكون أعمى. فإذا ما حاول أحدهم أن يشذ عن هذا التيار أقاموا عليه الدنيا وأقعدوها، واجتمع عليه المجلس الشرعي الذي كانت تتدخل فيه الدولة. وفي أحسن الأحوال كان يحكم على المستقل برأيه بعزله من وظيفته. أما في أسوأ الأحوال فالحكم عليه بالتكفير والزندقة. ومع ذلك حاول بعض الفقهاء تحطيم هذا الجدار. ومنهم عبد الكريم الفكون في القرن الحادي عشر (١٧ م)، وأحمد بن عمار في القرن الثاني عشر، ومحمد بن العنابي في أوائل القرن الثالث عشر. وقد سقنا في الجزء الأول عدة نماذج من ثورة الفكون على الجمود العقلي لدى فقهاء عصره. ونود أن نضيف هنا