الذي هو نوع غريب، في نظره، من الطبول التي تضرب عادة في الشوارع. أما آلات الصنج النحاسية، التي تصم الآذان في الاحتفالات بالأعياد وليالي رمضان فهي ممنوعة في المقاهي. إن الناس في المقهى يريدون الهدوء، وينتظرون الموسيقى التي تساعدهم على الأحلام اللذيذة والخيالات البعيدة، وتعينهم على السكينة والتأمل المناسب لطبائعهم. ولا يريدون الصخب والضجيج المرافق للحرب والفروسية لأنهما حسب قوله، يذكرانهم بماضيهم. ومن المقاهي كلها مدح بولسكي المقهى القريب من جامع كتشاوة (الكنيسة الكاثوليكية) لشهرتها ونكهة قهوتها ورقي مجتمعها وعزف جوقها الموسيقى الذي أعطاه، كما قال، علامة (جيدة جدا).
وكان رئيس الفرقة في هذه المقهى شيخا من أهل الحضر، وكان يعزف على الرباب بطريقة أصيلة ملفتة للنظر، وكان يحرك رأسه تبعا للمعاني والآلام التي يحملها، وكان يعبر بملامح الوجه عما يعتمل في دمه من حريق ووجد، كل ذلك كان مرفوقا بإشارات حزينة ورتيبة تعتبر في عين المتفرج وأذنه تسلية مثيرة. كان هذا الشيخ هو أحد الموسيقيين للداي حسين باشا. وقد ظل طيلة ستين سنة من حياته يغني ويعزف في مثل هذه الحفلات. وليت بولسكي أعطانا اسم هذا الفنان المجهول الذي غاب في التاريخ دون أن نعرف اسمه، حاملا معه هموم وطن عزيز استباحه العدو وشعب كريم أذله. كان هذا الشيخ الفنان محل تقدير العائلات التي غنى لها في الأفراح والأتراح. فطالما أفرحهم بمعزوفاته وصوته أثناء أحزانهم وأوجاعهم، فعند الميلاد والزواج كانت ألحانه ترقص الراقصين وتوجه خطواتهم، وعند الجنائز كانت أوتاره تئن بالنغمات الرتيبة التي تتناسب مع مشاعر الأسى كما تتناسب مع مشاعر الفرح. فمن هو يا ترى هذا الفنان؟.
وهناك مقاهي أخرى أو مقاصف في الحقيقة، للرقص والغناء واللهو والعبث، وقد ذكر لنا منها بولسكي ثلاثة: مقهى شارع الديوان. وكان يملكه أحد أثرياء الحضر، وهو من عائلة إبراهيم شاوش الذي كان، كما قالوا، جلاد الداي حسين باشا والذي كان رجل سلطة وقوة. وكان الحضر يحترمون صاحب هذا