وكان النسيان والاندماج في ثقافة المحتل من جهة أخرى.
حقيقة أن القرنسيين قد أسسوا ثلاث مدارس شرعية لتدريس العلوم الدينية، بما فيها الفقه، منذ ١٨٥٠، وقد أسندوا إدارة كل منها إلى شيخ من شيوخ العلم المتوسطين. ثم وضعوها منذ السبعينات تحت إدارة مستشرقين وفرنسوا برامجها. وذكرنا أن سمة هذه المدارس كان تخريج الأيمة والقضاة للإدارة الفرنسية. وكان القاضي يتلقى معارف دينية وثقافة شرعية ومبادئ لغوية. وقد بلغ بعضهم درجة طيبة من العلم جعلته يشارك بالرأي والكتابة أحيانا في الحياة العامة. فكان منهم أعضاء في اللجان الرسمية، والمجالس الفقهية، وإصلاح القضاء، والترجمة وتدوين الفقه الإسلامي. وكان منهم بعض المدرسين اللامعين في الفقه وعلم الكلام. ولكن التفسير والحديث وعلومهما لم تكن من بين مواد الدراسة ولا من موضوعات الدروس العامة. ويتبع ذلك إبعاد القراءات وعلم التجويد والترتيل، وشروح الحديث.
لكن هناك مواد أخرى استمرت كما كانت قبل الاحتلال لأنها لا تتصل بالرأي وإصدار الأحكام، ولكنها تعبير عن التواصل بين العلماء، ونعني بذلك تداول الأثبات والإجازات. وقد عرفنا من العهد العثماني أن هذا النوع من الانتاج كان في أغلبه علامة على ضعف الثقافة وليس على قوتها. كان تسجيل الثبت أو الفهرس أو البرنامج- حسب المناطق - يقصد به المدون إثبات ما تلقاه من علوم وتسجيل أسماء الذين تلقاها منهم، والكتب التي درسها بها. وهو عمل جيد في حد ذاته، ولكنه أصبح تجارة وإشهارا عند بعض العلماء المتأخرين. فهم يرون أن تدوين أسماء شيوخهم والكتب الدراسية غاية في نفسها. وسنرى أن بعض الأثبات والأسانيد كانت تتعلق بعلم الحديث بالذات وانتقاله بالرواية والتواتر إلى الجيل الحاضر. أما الإجازات فقد أصبحت سلعة بائرة، متداولة بين علماء العصر ومقدمي الطرق الصوفية، وهي تعني جمع شهادات من هنا وهناك، دون مراعاة الشروط الضرورية كالحضور الشخصي والتحصيل والتأهل. فكان الذي يمنح الإجازة كالذي يتلقاها منه، كلاهما يقصد المباهاة وتكثير الأتباع وترويج السمعة دون