الشرعية، وجعلته عبارة عن تكرار ونقل رتيب لأعمال الآخرين.
وإذا كان ابن عمار قد عاب على فقهاء عصره جمودهم العقلي وترهل الفكر عندهم فإن ثورته لم تصل إلى حدة ثورة الفكون ولا ثورة محمد بن العنابي، والواقع أن ابن العنابي كان من أوائل الفقهاء الذين لم يكتفوا بنقد الجمود العقلي بل أضاف إلى نقده اللاذع الدعوة إلى استعمال الاجتهاد والأخذ بأسباب الحضارة الغربية، والحد من نشاط الدراويش الذين أضروا في نظره بالمجتمع الإسلامي. وكأن ابن العنابي قد جاء ليوضح ما دعا إليه الفكون. ففي كتابه (السعي المحمود في نظام الجنود) نقد ابن العنابي معاصريه من الفقهاء بشدة وسخر من أفكارهم ومظهرهم، كما نادى بضرورة النهضة الإسلامية على أساس المنافسة بين العالم الإسلامي والعالم الأوروبي والسباق مع الحضارة الأوروبية والفوز عليها فيما تفننت فيه من أنواع الاختراعات والمبتكرات الصناعية والتقنية والحربية. وكان له رأي أيضا في الديمقراطية السياسية وتوزيع الثروة واختيار الأكفاء في الإدارة ونحو ذلك مما كان شبه محرم طرقه على الفقهاء قبله (١).
وظاهرة التقليد، بالإضافة إلى تخلف الثقافة عموما، كانت مسؤولة على ندرة الإنتاج في العلوم الشرعية التي تحتاج إلى ثقافة واسعة وعميقة كالتفسير. ذلك أن مفسر القرآن الكريم يحتاج إلى ثقافة دينية وتاريخية ولغوية قوية لكي يقدم على عمله، بالإضافة إلى استقلال عقلي كبير، وهذا ما لم يتوفر للجزائريين خلال العهد العثماني. فمجال الثقافة، كما عرفنا، كان محدودا، وميدان استثمارها كان أيضا محدودا. وإذا توفر جانب من جوانبها المذكورة (الدينية، التاريخية، اللغوية والاستقلال العقلي) فإن بقية الجوانب لا تتوفر. لذلك قل مفسرو القرآن من الجزائريين، وضحلت دراسات الحديث باستثناء بعض الفروع كرواية الأسانيد والأثبات ومنح الإجازات فيها. أما الدراسات الفقهية فقد كانت تقليدية أيضا. ولم يستطع أحد من
(١) أبو القاسم سعد الله (رائد التجديد الإسلامي: ابن العنابي) ط ٢، الإسلامي، بيروت ١٩٩٠.