حد ذاته، لأن ذلك يهم غيرنا أكثر، ذلك أن الثقافة التي نتناولها في هذا الكتاب تعني نتائج الفكر والذوق والشعور بعد الصقل بالدراسة والتعب، وطلب العلم بجميع أنواعه وتحصيل الملكة عن طريق الممارسة والنصب، ولا يحتاج الشعر الشعبي إلى كل ذلك أو شيء منه، بل أن ضعف الثقافة بالمفهوم الأول هو الذي ساعد الشعر الشعبي على الانتشار والذيوع، وبذلك يكون رواج الشعر الشعبي دلالة على ضعف الثقافة الأدبية في البلاد، فهو، من الناحية الجدلية المحضة، ضد الثقافة ودليل على انحطاطها.
وهذه الظاهرة، ظاهرة شيوع الشعر الشعبي بدل الشعر الفصيح وضعف الثقافة الأدبية، قديمة ولا تخص العهد العثماني وحده. فقد لاحظ ابن خلدون ذلك وعزا عدم عناية المغاربة بأنسابهم إلى شيوع الشعر الشعبي الذي لا يحفظ كما يحفظ الشعر الفصيح، ولكن الضعف استمر وازداد، وقد تفاقم أيام العثمانيين. فإبعاد اللغة العربية عن الإدارة وجهل الحكام، بما في ذلك الجزائريون التابعون للعثمانيين، بها، وعدم وجود جامعة أو مركز إسلامي عتيق في البلاد، وكون خريجي التعليم القرآني لا يجدون وظائف إلا في مجالات محدودة، كل هذه عوامل ساعدت على إضعاف الثقافة الأدبية وتشجيع الشعر الشعبي والأدب الشعبي بدلا منها.
وعندما ألف مؤلفون أدباء ومؤرخون أمثال الجامعي وأبي راس وابن سحنون وجدوا أنفسهم أمام سيل من الأدب الشعبي لا يمكن التخلص منه، كما وجدوا الأدب في حالة ضعف وتقهقر، ولم يسع الجامعي إلا أن يورد، بعد أن اعتذر وذكر الأسباب، نماذج من الشعر الشعبي في شرحه لرجز الحلفاوي، بعضه منسوب وبعضه غير منسوب. كما لم يسع ابن سحنون، وهو الأديب الناقد الشاعر، إلا أن يذكر أن ممدوحه قد مدح بالكثير من الشعر الشعبي، مبينا أن (ذلك أمر خارج عن مقصد الأديب، لا يخصب روض البلاغة الجديب) كما عزا أكثر الشعر الملحون إلى غلبة العجمة على الألسن وذهاب سر الحكمة منها (فصار الناس إنما يتغنون بالملحون، وبه