صيانة المساجد، كما أنها لم تصن مساكن الطلبة والعلماء التي كانت مجانية. ونقصت قيمة العملة المتداولة، فلم تعد الوظيفة التي أصبح عليها رجال الدين يكفي دخلها، ولذلك لم تعد أمرا ممتازا يتنافسون عليه. وقد زاد أولياء التلاميذ في أجور المعلمين (المؤدبين) ولكن غلاء المعيشة أدى بالعائلات إلى توجيه الأبناء إلى أعمال أخرى أكثر ربحا، كما توقفوا عن استقبال الأقارب وأبناء الأعراش من خارج قسنطينة. بينما تدهور حال المدرسين والعلماء وافتقروا وأصبحوا متذمرين. وأدى كل ذلك إلى انخفاض مستوى التعليم ونقص مدته والمواظبة عليه. وكانت نتيجة هذا الوضع في مدينة قسنطينة هي رحيل التلاميذ القادرين إلى زوايا المناطق غير المحتلة بعد، مثل منطقة زواوة ومناطق الجنوب، طلبا للعلم.
هذه الصورة السوداء التي رسمها تقرير الجنرال بيدو عن التعليم في قسنطينة وتدهوره وبعثرة أهله يتفق معه فيها زائر انكليزي زار هذه المدينة في نفس الفترة تقريبا. يقول الرحالة بلاكسلي: كانت الأوقاف كثيرة، وهي مورد التعليم المجاني. وكانت تزيد أحيانا عن حاجة المدرسة والمسجد فيخصص منها جانب للفقراء أيضا. وقد حضر بلاكسلي مع المستشرق شيربونو درسا كان يلقيه بعض المدرسين فقال أنه مدرس يمتاز بالذكاء والجاه، وكان الدرس في تفسير القرآن الكريم. أما في وقت الزيارة فقد أصبحت المدارس والمساجد والزوايا (مهجورة وخرابا في كل مكان بالجزائر). كما أن فقر السكان الذي جاء في أعقاب مصادرة أموال الأوقاف كان بدون شك السبب الرئيسي في هذا الخراب، رغم أن الحرب كانت سببا آخر أيضا (١).
ونفهم من ذلك أنه بعد الاستيلاء على المدن ومصادرة الأوقاف وهجرة العلماء، قصد المتعلمون الراغبون المناطق البعيدة عن الفرنسيين لمواصلة
(١) جوزيف بلاكسلي، (أربعة أشهر في الجزائر)، لندن ١٨٥٩، ص ٣٠. لا شك أن الزيارة كانت بعد ١٨٥٠، لأن وجود شيربونو كان بعد هذه السنة. والمقصود هنا فتح المدرسة التي أسسها الفرنسيون في هذا العام في قسنطينة، وهي إحدى المدارس الثلاث الشرعية - الرسمية.