محترم عند الله والناس وعند الحكام. فهناك الإعفاء من الضرائب، وهناك الخدمات الاجتماعية التي لا حصر لها، وتحبيس الكتب وغيرها على الطلبة والمتعلمين. بالإضافة إلى أن هناك جانبا عمليا من التعليم وهو الوظائف القضائية والتوثيقية والإدارية والتعليمية، وحتى الترجمة. أما قرض الشعر وكتابة الرسائل، وحل مشاكل التركات، والاطلاع على ما عند الآخرين وعلى التراث العلمي، فذلك موضوع آخر له أهميته في هذا المجال. ولكن روح التخلف والجمود قد سرت هنا أيضا. فالتعلم رغم الأبهة والسمعة الطيبة لصاحبه، لم يكن هو الوسيلة المثلى للرزق والسلطة، فالحكام كانوا جهالا إلا من رزقهم الله حظا من الذكاء الفطري أحيانا. والمناصب الأخرى غير مقصورة على ذوي العلم. والتجارة غير قائمة على دراسة قوانينها وإنما هي الظروف و (الشطارة) وبعض الأعراف. والمبادلات مع أوروبا كان يحتكرها التجار اليهود بترخيص وتواطؤ من الحكام، أما البنوك فقد كانت منعدمة. ورغم وفرة المال في الخزينة فإن مجال تصريفه وإنعاشه كان محدودا.
من هنا بقي للتعلم فضيلتان: فضيلة الدين وفضيلة الرزق والمباهاة لفئة معينة في المجتمع. ويهمنا هنا الجانب الأول لأن الجانب الثاني (فضيلة الرزق) في الواقع هو نتيجة للأول. إذ أن من تفقه في الدين بوسائل الكتابة والقراءة وحفظ القرآن وإدراك بعض العلوم، حصل على المنصب والرزق ونال الحظوة بين الناس. ومن هنا نأتي إلى نقطة أخرى حول هذا التعلم الذي ساد سنة ١٨٣٠ وهو أنه كان تعلما خاصا لا ترعاه وزارة ولا حكومة. ولكن ترعاه مؤسسات وقفية وجهود فردية، ويساهم فيها المجتمع بكل فئاته ومواقعه، من المدينة إلى الريف. وهذه ظاهرة ما تزال في حاجة إلى بيان وتعمق حين يتحدث الناس عن (الخوصصة) في التعليم والاقتصاد وغيرهما. إن مجتمعنا القديم كان يقوم بنفسه وتلقائيا في هذا المجال. فالتعليم، كما قلنا واجب ديني واجتماعي، وليس واجبا سياسيا. ليس هناك تشريعات حكومية ولا برامج واجبة التطبيق للوصول إلى هدف معين بعد المدرسة. وإنما هناك العرف وهناك شروط الأوقاف، وهناك أيضا أوامر ونواهي الدين.