انتقاله إلى تونس في عهد السلطان الحفصي أبي عمرو عثمان (حكم من ٨٣٩ إلى ٨٩٣) تولى القضاء أيضا هناك. وكان لهذا السلطان مجلس علمي تدور فيه محاورات العلماء في فنون الشريعة والمواعظ والآداب والنكت فتكلم محمد الغربي القسنطيني على الرسالة في مجلس السلطان. ولعله نال بذلك رضى السلطان وإعجاب العلماء. فقد كرر، كما قلنا، عبارة (لم أسبق بشرح عليها) وكان دافعه إلى القيام بهذا العمل الضخم كون الرسالة قد (صرحت من علم القضاء بقواعد أصوله ولوحت إلى باقي تفاريع فصوله) فبدا له أن يضع عليها تقييدا بين الإطناب والإيجاز.
وقد ذكر نص الرسالة وروايات الرواة لها وشرح ألفاظها ثم جاء بنسب عمر بن الخطاب وأخبار الخلفاء وأخبار القضاة وشروط القضاء وأخبر أن شروط القاضي الصبر وحسن الخلق. كما أورد أخبارا عن التصوف ومرويات عن الفقهاء ونحو ذلك من المسائل التي كانت تهم جلاس مجلس السلطان العلمي، وتدل على حذقه في الحفظ والاختيار. وهو ينقل آراء عن بعض العلماء المتقدمين عليه أمثال ابن عرفة والقاضي عياض وابن رشد والغزالي والقرطبي وابن شاس والمتيطي وابن فرحون والباجي وابن عبد السلام. ومعظم هؤلاء من علماء الأندلس والمغرب. ويعتبر هذا الكتاب موسوعة أيضا في أحكام القضاء والدين والأدب والنوادر والأخبار. وهو من الآثار الجديرة بالنشر والتحقيق.
...
ورغم كل ما قيل عن القرن التاسع وأهله فإنه لا شك كان عصر تحولات سياسية كبيرة وإنتاج ثقافي غزير، وخصوصا في بعض الفروع. فمن حيث التحولات عرفنا أنه قد شهد احتضار إمارات كان يمزقها الضعف والتنافس والاعتداء الخارجي ونهوض دول أوروبية طموحة كان يقودها التعصب الديني والشره التجاري والوعي القومي إلى التوسع والسيطرة والاستغلال. أما على المستوى الثقافي فقد عرفنا التحولات العقائدية التي