والقضاة، فالفتوى والإمامة أقرب في ذهن العامة إلى الدين من القضاء والتدريس (بعد فصل السلطات الفرنسية بين الدين والتعليم والقضاء). ولذلك اختفى محمد السعيد بن زكري مفتي العاصمة، سنة ١٩١٢، باقتراح من دومينيك لوسياني (مدير الشؤون الأهلية) حتى لا يتعرض للضغط الشعبي، ولم نسمع برأي ابن الموهوب مفتي قسنطينة الذي طالما سمعناه ينادي على مواطنيه بدخول المدارس واتباع خطوات الفرنسيين في التقدم، ولا برأي مفتي وهران علي بن عبد الرحمن المنتمي للطريقة التجانية.
وعندما حصحص الحق وأعلنت الحرب العالمية لم يتوان ابن الموهوب والمفتي الحنفي عبد الكريم باش تارزي في إصدار (فتوى) لصالح فرنسا، وجاء في نص الفتوى أن ثلاثة عشر من أعيان قسنطينة يؤيدونها أيضا، ومنهم محمد بن الشيخ الفكون (الذي قد لا يكون له وظيف ديني) ومحمد المصطفى بن باديس (والد الشيخ عبد الحميد). وعبد القادر بن الشيخ الحسين، والسعيد عمران (مقدم الطريقة الشاذلية)(١). وعنوان هذه الفتوى الغريبة هو (وصية للمسلمين). وقد جاء فيها الإشادة بفرنسا والحلفاء وذم الألمان والعثمانيين، ومما جاء فيها:(هذه رسالتنا ننصح بها أنفسنا، معشر الواضعين خطوط أيدينا فيها، وننصحكم بها وفاقا للدين والعقل والسياسة والعادة، فدوموا صادقين مخلصين لدولتنا الفرنسوية الفخيمة، قائمين على ساق الجد لإعانتها على أعدائها، دمرهم الله! وأراح منهم الحلفاء، وتمتعوا بعافيتكم في دياركم تحت قوة دولتنا، نصرها الله! واسمعوا وأطيعوا واصدقوا لتكونوا من المسلمين الكاملين العارفين). ولنستمع بعد ذلك إلى هذا الدعاء الذي نورده دون تعليق، تاركين الوثيقة تتحدث بنفسها:
(١) عن موقف رجال الطرق الصوفية من الحرب العالمية وتأييد فرنسا، انظر فصل الطرق الصوفية، ونحن نعلم أن الشيخ عبد الحميد بن باديس قد سماه والده على اسم السلطان عبد الحميد الثاني، وكان الشيخ عبد الحميد يقول إن له خؤولة تركية، ولكن الاستعمار وظروف الحرب قد غيرت العلاقات.