دراستنا عنها (١). ومن الملاحظ أن برنامج هذه المدارس قد خضع في عمومه بحسب حاجة السلطة الفرنسية إلى القضاة، فإلى ١٨٧٠ كان القضاة ما يزالون يتمتعون بأهمية في الإدارة الفرنسية، ولكن منذ الجمهورية الثالثة تقلص دورهم فتغير أيضا برنامج المدارس الشرعية، تبعا لذلك، ومهما كان الأمر فإن مصدر القضاة في الأحكام هو مختصر الشيخ خليل بن إسحاق في الفقه المالكي وشروحه، وقد قام علماء الاستشراق الفرنسيون بترجمته إلى الفرنسية، واعتمدت عليه أيضا المحاكم الفرنسية بشأن المسلمين بعد أن أخذت من المحاكم الإسلامية صلاحياتها، كما استعملت وترجمت رسالة ابن أبي زيد القيرواني وكانت أيضا متداولة، وكذلك تحفة الحكام لابن عاصم.
وكان القضاة المسلمون في نظر الشعب هم رموز السلطة الباقية - سلطة الدين التي تعني الهوية في كل أبعادها. فهم يمثلون التحدي السياسي، والمقاومة الثقافية، وجذور المجتمع المتميز عن المجتمع الفرنسي، وكل الخصوصيات الحضارية الأخرى، وقد تحدث عن هذا الموضوع عدد من الكتاب، وألفت فيه بعض الأطروحات، وسنتعرض إلى بعض الآراء حوله، وكان تحطيم جهاز القضاء الإسلامي في نظر الفرنسيين يدخل في مخطط تحطيم المجتمع الجزائري الشامل، مثله مثل القضاء على اللغة بجعلها أجنبية، والقضاء على ملكية الأرض بمصادرتها وإعطائها للمستوطنين، والقضاء على وحدة المجتمع بتفتيت الأعراش والقبائل وإنشاء الدواوير ثم البلديات الفرنسية مكانها، والقضاء على الأنساب والأصول بإنشاء الحالة المدنية على الطريقة الفرنسية، والقضاء على الدين الصحيح بتشجيع الذروشة والخرافات والتدجيل، إنه مخطط شامل، كما قلنا، ولكنه سار على مراحل، حسب الحاجة الفرنسية إلى ذلك، ولم يكن القضاة، في أغلب الأحيان، في وضع يحسدون عليه، ولم تكن مشكلتهم مشكلة خبز فقط، مثل بعض الموظفين الآخرين، ولكنها مشكلة مبدأ ورسالة أيضا.