ننسى أن الهجرة قد أفرغت المدن من عناصرها البشرية الراقية فنا وعلما وثروة.
ولا يسعنا هنا ذكر نماذج كثيرة من أحكام الأوروبيين الأولين على ما وجدوه في الجزائر وما عاشوه من فنون شعبية وهي الموسيقى والغناء والرقص. وسنكتفي ببعض الأمثلة. فحين حل الحاكم العام الجديد، الكونت ديرلون، بالجزائر سنة ١٨٣٤، أقام له الحضر، كما قيل، حفلة موسيقية في دار البلدية، كما أقام له الفرنسيون حفلة مثلها. وقد خصصت قاعتان في الدار، واحدة لكل نوع من أنواع الموسيقى، فالاختلاط كان محرما منذ أول لقاء بين المستعمر والمستعمر. فقد جعلت القاعة السفلى للرقص والموسيقى الفرنسية والقاعة العليا للموسيقى العربية. ووصف الواصفون خلال ذلك الذوق الراقي في التحضير والملابس الفاخرة وألوان الموسيقى، وكيف كانت الجلسة العربية من مظاهر الحياة الشرقية، وقد قلد فيها الفرنسيون العرب حتى في لباسهم وعمائهم وتدخينهم حتى ظنوا أنهم، كما قيل عنهم، في القاهرة أو في اسطانبول. وكانت القهوة تقدم في فناجين صغيرة على صحون صغيرة مفضضة حتى لا تؤذي الأصابع، وزخرفت القاعة وحيطانها بالأسلحة من جميع الأنواع وكانت الأسلحة أيضا محلاة بالفضة والأحجار الكريمة، وعرضت خلال ذلك المطروزات الزاهية. وقد حضر عشر نساء لأداء الرقص على الطريقة الحضرية. ثم بدأت الحفلة والرقص الفرنسي. ودامت الحفلتان إلى الصباح.
أما الموسيقى العربية فلم تعجب الواصف للحفلة. فقد وصفها بأنها مملة بالمقارنة إلى الموسيقى الأوروبية. وآلاتها عندئذ هي الدف (الطبل) والرباب. وقال الواصف الفرنسي إن النقر على الدفوف والغناء العربي غير المفهوم يحرج الآذان، وهذا من حكم الشعور بالتفوق طبعا، ولو كان الواصف من الطرف الآخر لوصف الموسيقى الفرنسية بأنها نشاز في نشاز. ولذلك قيل عن الموسيقى العربية والغناء العربي بأنهما لا يخضعان للإيقاعات الإيطالية والفرنسية التي تنسجم مع المعاني. ثم حكم الواصف في الأخير أن لكل بلد موسيقاه وغناءه (١).
(١) انظر لاحقا رأي دانيال سالفادور في حكم الأوروبيين على الموسيقى العربية.