بقي أن نتحدث عن الخطب الدينية ثم التعليمية والتأبينية. ونعني بالخطب الدينية خطب المساجد الخاصة بالجمعة والأعياد، وهي عادة يلقيها خطباء مختصون، ويمتازون بالفصاحة والبيان، والقدرة على الإسماع وحفظ القرآن، وكان الإمام العادي لا يقوم بالخطابة وإنما يؤدي الصلوات، أما الخطيب فله دوره وميزاته الأخرى كالتأثير في الناس وطلاقة اللسان، والتمكن من التفسير والحديث. ولذلك كان تجنيد الخطباء ليس بالأمر الهين، لأن عامة الناس هم الذين يحضرون للصلوات اليومية، أما صلاة الجمعة والأعياد فيحضرها الأعيان وقد يحضرها كبار المسؤولين والضيوف. وهكذا يحتاج الأمر إلى شخصيات علمية وسياسية أيضا.
أما في العهد الفرنسي فقد ضعفت الخطابة الدينية بالتدرج لضعف مستوى الثقافة وهجرة العلماء الأكفاء وإعطاء الوظيف لمن سأله لا لمن استحقه، بل لمن رضيت عنه السلطات الفرنسية. وكانت الإدارة هي التي تعد الخطب وتصوغها وتقدمها للخطيب فلا يخرج عنها إلا للأدعية والأذكار إذا شاء. وموضوعات الخطب سلبية جامدة، فلا تتحدث إلا عن العبادات وأحوال الآخرة والأموات وعذاب القبر.
وقد لاحظ حمدان خوجة منذ البداية أن العلماء قد ذلوا ولم يعد في إمكانهم مصارحة السلطات الفرنسية بما يجري أو بما يعتقدون لكثرة القمع والجوسسة من حولهم. وكانت أية كلمة إضافية خارجة عن نطاق الورقة المكتوبة يحاسب عليها صاحبها، حتى الدعاء للسلطان والخلفاء الراشدين ونصرة الدين قد غير صيغته الفرنسيون منذ بداية الاحتلال، ولم يعد في استطاعة الخطيب في الجمعة مثلا أن يدعو بالنصر للسلطان العثماني ولا باتباع السلف الصالح، بل إن الإدارة الفرنسية جعلت الخطباء ينوهون بأعياد فرنسا والدعاء لحكامها. يضاف إلى ذلك ضعف اللسان وقهر الجنان. ولقد
= تأثير سريع ومباشر على الجمهور. ولعل استعمالاته اللغوية وعنايته بالأمثال والشعر يفقده القدرة على التأثير إلا على الخاصة.