وقد كان لهذه الاضطرابات السياسية وسوء الأحوال الاقتصادية عاقبة وخيمة على الحياة الثقافية. فهاجر بعض العلماء إلى المشرق والمغرب، وربط آخرون منهم مصيرهم ببعض الأمراء، بينما انزوى بعضهم مفضلا عيشة الزهد والهروب من أدران الحياة. وقد خسرت الحياة الثقافية في الجزائر من هجرة عالم جليل هو أحمد بن يحيى الونشريسي إلى فاس لأسباب سياسية.
ونفس الأسباب حدت بالمفكر محمد بن عبد الكريم المغيلي إلى الهجرة من تلمسان أيضا إلى السودان القديم. وهناك عدد آخر من العلماء هاجروا إلى المشرق وتوفوا به أمثال أبي الفضل محمد المشدالي البجائي وأحمد بوعصيدة البجائي وأحمد بن يونس القسنطيني وأبي القاسم المعروف بابن سالم الوشتاتي القسنطيني أيضا وأبي زيان ناصر بن مزني البسكري، ومحمد بن أحمد المعروف بابن صعد التلمساني، بينما كان ابن القنقذ يؤلف (الفارسية) للسلطان أبي فارس الحفصي، ومحمد بن عبد الله بن عبد الجليل التنسي يؤلف (نظم الدر والعقيان في شرف بني زيان) للسلطان أبي عبد الله محمد بن أبي تاشفين الزياني. وكان الشاعر محمد بن عبد الرحمن الحوضي يسخر موهبته الشعرية لخدمة السلطان أبي عبد الله الزياني، والشاعر أحمد الخلوف القسنطيني يشيد بالسلطان أبي عمرو عثمان الحفصي، وهكذا. ولكن رجالا من أمثال عبد الرحمن الثعالبي وتلميذه أحمد بن عبد الله الزواوي الجزائري ومعاصرهما محمد بن يوسف السنوسي اختاروا حياة العزلة والتصوف وترك الدنيا لأصحابها والاهتمام (بعلوم الآخرة) حسب تعبير الثعالبي. وسنعرف المزيد عن هذا الموضوع عند دراستتا لإنتاج هؤلاء العلماء.
٣ - ووسط هذه الصورة المضطربة للحياة السياسية كانت هناك بعض المدن تنمو بعدد سكانها وتشع بمدارسها ومساجدها ثقافة يتغذى منها المجتمع روحيا وعقليا. ومن هذه المدن نذكر تلمسان وقسنطينة وبجاية
= الجزائر ١٩٧٨ وهي الدراسة التي قدمتها ايضا لتنشر ضمن وقائع ندوة المرحوم الدكتور أحمد فكري التي نظمتها جامعة الإسكندرية أثناء خريف ١٩٧٦.