ولم تكن معاملة الأتراك هي السبب المباشر في هذه الهجرة، ذلك أن الحروب الداخلية التي عرفتها المملكة الزيانية في أخريات أيامها وعلاقتها بالإسبان في وهران وضغط بني وطاس عليها من الغرب والعثمانيين من الشرق قد جعل العلماء لا يشعرون بالراحة ولا بالجو الملائم والاجتهاد في الرأي والحياد السياسي. فما كان من العديد منهم إلا أن حمل أمتعته وأهله وترك البلاد جملة حتى يهدأ غبار الفتن والمعارك. ومن أشهر من هاجر في تلك الظروف أحمد الونشريسي صاحب (المعيار) الذي درسناه في الفصل الأول. وقد كان وحده خزانة علم ودائرة معارف فقدت البلاد بهجرته ركنا أساسيا من أركان الحياة العلمية. وقد ظل ابنه عبد الواحد في فاس أيضا. وهو لا يقل شهرة عن والده. وقد قال عنه معاصروه انه (كان شاعرا مجيدا لا يقارعه أحد من أهل عصره) وأنه امتاز بالمهارة (في صناعة الإنشاء وعقد الشروط والوثائق). وكان لعبد الواحد مجلس خاص لا يحضره إلا أكابر العلماء. وقد تولى الفتيا والقضاء والتدريس. وظل قاضيا ثماني عشرة سنة ثم تفرغ للإفتاء. واشتهر بأنه كان لا يخشى صاحب السلطة في أمور الدين. وكان ذلك سببا في قتله على يد عملاء السلطان محمد المهدي الشيخ السعدي عندما رفض عبد الواحد الونشريسي مبايعته وخلع بيعة أحمد الوطاسي. وهكذا مات مقتولا عند أحد أبواب جامع القرويين سنة ٩٥٥ ضحية التقلبات السياسية (١).
وقد ذكر ابن مريم جملة من هؤلاء العلماء الذين هاجروا إلى المغرب. فهذا محمد بن مرزوق الخطيب الذي دخل فاس وأجاز بها والذي كان حيا سنة ٩١٨. وهذا أحمد الواعزاني الذي استوطن فاس وتوفي بها سنة ٩٨١.
وهذا محمد بن شقرون الوجديجي الذي نزل فاس وتولى الإفتاء في مراكش وأدركته الوفاة في فاس سنة ٩٨٣. وكذلك محمد بن عزوز الديلمي الذي انتقل من البادية إلى الحاضرة ثم قصد فاس حيث توفي. ونفس الشيء يقال
(١) انظر الكتاني (سلوة الأنفاس) ٢/ ١٤٧، و (الإعلام بمن حل مراكش) ٤/ ١٥٧.