للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(أن العلم ليس بكثرة الرواية وإنما هو ما يحضره عند الحاجة إليه في الفتوى من الدراية، وأن الرد للمعلومات إنما حدث عند فساد القلوب بطلب الظهور والتعالي عن الأقران وكثرة الرياء في الأعمال). وعلق الفكون على كلام ابن العربي بأنه (يعبر عن صفة الحال) في قسنطينة وفي غيرها. فلا ترى إلا من يقول قال فلان، قال فلان، أو يذكر نص التأليف بدون تغيير، فإن صادف الحكم الحكم نجا وإلا أصبح كالصيد في الشبكة. ونعى على علماء وقته أنهم كانوا يفعلون ذلك حبا للمدح وصرف قلوب الخاصة والعامة إليه. ولو سئل أحد هؤلاء العلماء (عن وجه الجمع بين المتشابهين أو الفرق بين المسألتين يقول: النص هكذا، ويستظهر بحفظ النصوص، وهل هذا إلا جمود في غاية الجمود؟) (١). والواقع أن ثورة الفكون على واقع الحال عندئذ من تكرار النقول عن الأقدمين والاعتماد على النصوص وحدها بدون استخدام للعقل والرأي الشخصي كانت ثورة صائبة ولكنها لم تجد الآذان الصاغية ولا الظروف المواتية، فظلت ثورة مكظومة تغلي في عروق صاحبها. فإذا عرفنا أن مثل هذا التفكير الحر أو الدعوى إلى التفكير الحر قد ظهرت في أوائل القرن الحادي عشر أدركنا أن الفكون كان لذلك لا يقل تحررا عن علماء أوروبا المعاصرين له، ولكن شتان بين البيئتين!.

ولم يكن الفكون وحده في الدعوة إلى الاجتهاد واستعمال الدراية، وفي السخرية من المشعوذين وأدعياء الولاية. فبعد قرن من دعوته وجدنا ابن حمادوش يشتغل بالعلوم كالطب والفلك والحساب والهندسة وغيرها ويجانب خط علماء عصره ويقرأ كتبا عربية وأجنبية حديثة وقديمة لا يقرأها ولا يهتم بها معظم فقهاء عصره. ومع ذلك فإن كابوس العصر كان فوق رؤوس الجميع. فابن حمادوش وأمثاله عندئذ (القرن الثاني عشر - ١٨ م) لم


= مقامات العارفين)، وفي رجزه الذي شرحه بنفسه وهو (فتح الوهاب في رد الفكر إلى الصواب). وقد أشرنا في الفصل الأول أيضا إلى انتصار المغيلي للمنطق والعقل في رده على السيوطي. كما سبقه الأخضري بثورته في (القدسية) خلال القرن العاشر.
(١) نفس المصدر.

<<  <  ج: ص:  >  >>