للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يطلعوا على ما كتبه الأوروبيون المعاصرون لهم، ولم يذهبوا إليهم للأخذ منهم، كما أخذوا هم من عرب إسبانيا والمشرق. ولو فعل هو وأمثاله ذلك لتغيرت الأمور في الجزائر لصالح الثقافة الخلاقة المتقدمة (١). ونفس الموقف قد وقفه أحمد بن عمار أيضا. ورغم تقيده بأحكام وقواعد الشريعة وروح العصر فإنه نادى بحرية الرأي واستعمال القوة العقلية في الإنسان وعدم التحرج من مخالفة الأوائل وعدم التمسك بالتقليد لذاته ولو كان الحق مع التجديد، (فالحق أحق أن يتع) وقد قال ابن عمار في العلماء الذين كانوا يتبعون السلف لمجرد الاتباع أنهم جامدون منكبون عن الحق (فهل هذا إلا جمود على محض الاتباع ولو مع ضعف الدليل؟ فوا أسفاه على ضعف العارضة وتراهل الدراية!) (٢).

وقبل الاحتلال ببضع سنوات ألف المفتي محمد بن محمود بن العنابي كتابا بعنوان (السعي المحمود في نظام الجنود) طرح فيه قضية التجديد والأخذ من الأوروبيين. وكان في ذلك متأثرا بدون شك بأحداث الثورة الفرنسية وبتطور مصر في عهد محمد علي وبإجراءات السلطان محمود الثاني ضد الإنكشارية وإدخال الإصلاحات على الجيش وغيره. وقد نادى ابن العنابي في جرأة كبيرة بضرورة تقليد الأوروبيين (ويسميهم الكفار) في مبتكراتهم وصنائعهم ولغاتهم وتقنياتهم وأسلحتهم، كما نادى بالتفوق عليهم في العلوم التي تفوقوا فيها لأن ذلك من صميم الدين الصحيح. أما الانغلاق والافتخار بما فعل السلف وتجنب ما ابتدعه الأوروبيون بدعوى أنه عمل


(١) انظر دراستنا عن ابن حمادوش في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، وكذلك فصل العلوم من الجزء الثاني وكتابنا (الطبيب الرحالة).
(٢) انظر (مسألة وقف) وهي مطبوعة ضمن كتاب إسماعيل التميمي التونسي (المنح الإلهية) ٥، ط. تونس. وفي إحدى فتاوي أحمد البوني التي سنعرض إليها في الجزء الثاني رفض قول القائل (ما ترك الأول للآخر شيئا) وانتصر لمن يقول إن العلم منحة إلهية وهي غير مقصورة على الأولين، وهذا رأي (تقدمي) إذا صح التعبير وهو يتماشى مع مبدأ حرية الاجتهاد، رغم أننا عرفنا أن البوني كان يجمع بين العلم والتصوف.

<<  <  ج: ص:  >  >>