فإذا أبعدنا عن الخطابة الميادين السياسية والعسكرية فإنه لم يبق أمامها إلا الميادين الدينية والاجتماعية، ولا شك أن هذه الميادين ظلت مفتوحة أمام الخطباء في العهد العثماني، فالمناسبات الدينية والاجتماعية كثيرة، وعلى رأسها صلاة الجمعة والعيدين. بقي علينا إذن أن نعرف الخطيب، والخطيب من حيث المبدأ هو أحد العلماء المعروفين بالعلم واللسان، ولكن هذا الشرط لم يكن دائما متوفرا، فهناك خطباء كان يغلب عليهم العي حتى كانوا ينيبون غيرهم للقيام بمهمتهم، وهناك من كان الناس يشكون من عدم إبانته وعدم أهليته لهذه المهمة الجليلة (١)، وبالإضافة إلى العي وعدم الأهلية كان هناك الجهل الذي تحدثنا عنه في مناسبات أخرى، فقد كانت الخطابة عبارة عن وظيفة يتولاها أحدهم لكي يكسب من ورائها مالا وعيشا وسمعة، لذلك كان القليل فقط من العلماء هم الذين شرفوا هذه المهمة السامية ووفوها حقها.
ومع ذلك فإن الخطابة كانت تعتبر وظيفة من أعظم الوظائف في الدولة، ذلك أن صاحبها كان يجمع إليها الإمامة، وقد يكون من المفتين أيضا، وتحدثنا المصادر، ولا سيما تلك التي تناولت حياة العلماء، مثل (تقييد) ابن المفتي و (منشور الهداية) للفكون، عن جملة الخطباء الذين زانوا الخطبة وقاموا بها أفضل قيام كما تحدثنا عن نماذج أخرى شانت الخطبة وحطت من قيمتها. ومهما كان الأمر فإن معالجة هذه النقطة بالذات عند النقاد والكتاب عندئذ تبرهن على أهمية الخطابة في وقتهم، فهم إذا رضوا عن أحد العلماء مدحوه بجودة الخطبة والبراعة فيها وذلاقة اللسان وحسن السمت، وإذا سخطوا عليه عابوا عليه النقص في ذلك. فهذا مصطفى بن عبد الله البوني قد اشتهر بحذق الخطابة وإتقانها حتى زعم من حضره أنه لم ير أفضل منه في ذلك من الجزائر إلى مكة، وهذه عبارة محمد بن ميمون فيه (يبتدع الخطب جارية الفقر .. صدرت له في هذا النوع عجائب أفردته في صنعة الخطابة، وله في الخطب الساعد المشتد، والإلقاء الذي تميل إليه