مكانته في مصر لم تصل إلى المكانة التي تمتع بها في الشام، وكان حاله في مصر وموقفه منها يذكر المرء بحال وموقف المتنبي أيضا منها، فبينما مدح الشام بكل جميل عاتب مصر بأبيات مرة وتأسف فيها على حاله:
تركت رسوم عزى في بلادي ... وصرت بمصر منسى الرسوم
ونفسي عفتها بالذل فيها ... وقلت لها عن العلياء صومي
ولا شك أن هذا كان أثتاء نزوة من نزواته وثور من ثوراته النفسية، وإلا فنحن نعلم من سيرته أنه أكرم في مصر أيضا وتولى فيها الوظائف وألف الكتب، غير أن طموحه كان أبعد من وسائله، وقد أصابته بعض النكبات في مصر أيضا، فقد توفت والدته وابنته من السيدة الوفائية، بالإضافة إلى غربته عن ابنته وأهله في المغرب (١)، فلا غرابة إذن أن تنقبض نفسه وتثور.
ابتسم الحظ للمقري، وهو في أخريات أيامه، فتعزى عن غربته ونكباته، فقد اعترف له العلماء، وخصوصا علماء الشام.، بما هو أهل له من الحفظ والأدب والظرف، لذلك أكثر من ذكرهم في (نفح الطيب) قائلا عنهم (نوهوا بقدري الخامل)، ونذكر من (هؤلاء أحمد بن الشاهين وعبد الرحمن العمالي ومحمد بن يوسف الكريمي ومحمد بن علي القاري ويحيى المحاسني، فقد تبادل معهم الإجازات والتقاريظ والمدائح والطرف والهدايا والأشعار، وفي هذا الجو عاش المقري حياة اجتماعية وعلمية شبيهة بحياته في المغرب العربي، في تلمسان أو في فاس، وكان إلحاح علماء الشام عليه في تعريفهم بلسان الدين بن الخطيب وبتاريخ الأندلس وأخبارها هو الذي دفعه إلى كتابة موسوعته الأندلسية (نفح الطيب). وقد نشط عقله وشاعريته في هذا الجو المنعش للآمال والطموح فأنتج أبحاثا ضافية وأشعارا غزيرة لو جمعت لجاءت في ديوان ضخم، وكيف لا تتنعش آماله وطموحه وقد قال فيه العمادي، مفتي الشام عندئذ:
شمس هدى أطلعها المغرب ... وطار عنقاء بها مغرب
(١) (نفح الطيب) ٣/ ٢٢٤، وقد عزاه في ذلك ولي نعمته وصديقه أحمد بن الشاهين.