للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العارفين العثماني له، فقد ركب مع المقري السفينة ونزلا مصر، ومنها سافر المقري بحرا أيضا إلى جدة، فأدى العمرة سنة ١٠٢٠ ثم فريضة الحج في السنة الموالية، ويقول عن نفسه أنه كان ينوي الإقامة عند البيت العتيق الذي أخذته عنده رعشة وانبهار، ولكنه عاد إلى مصر سنة ١٠٢٩ لظروف لم يكشف عنها، وتزوج بها، ولعل أحواله المادية هي التي أخبرته على أن يبدأ في مصر السلوك الذي انتقده معاصره الفكون. ومهما كان الأمر فإنه ابتداء من هذه السنة تصبح حياة المقري واضحة أكثر ومسجلة ومدروسة أيضا إلى حد كبير، فقد ظل يتنقل بين مصر والحجاز، ثم أضاف إلى ذلك بيت المقدس ودمشق. فحج حوالي خمس مرات وسافر إلى القدس عدة مرات وذهب إلى الشام على الأقل مرتين، ولكنه لم يعد إلى البلاد التي أحبها كثيرا أو إلى تلك التي أقام بها ربع قرن يعلم ويتعلم، وإذا كانت هذه نكبته هو النفسية فهي بدون شك نكبة وطنه أيضا، لأنه لو عاد إليه بعلمه الغزير وأدبه الجم لأسهم في نهضته وتكوين جيل من الأدباء والعلماء، ولكن القدر شاء أن يقيم المقري اثني عشرة سنة أخرى من حياته بعيدا عن أهله ووطنه، ذلك أن أجله قد وافاه سنة ١٠٤١ وهو في مصر يستعد للعودة إلى دمشق.

في الشرق عاش المقري حياة حافلة بالنشاط العقلي، فقد ألف معظم كتبه هناك، ولا سيما موسوعته (نفح الطيب)، وألف عددا من كتبه الدينية في المدينة المنورة، مثل (فتح المتعال) و (أزهار الكمامة) (١). واتصل بالوجهاء والعلماء، ولعله اتصل أيضا ببعض الأمراء، ومدح هؤلاء بالشعر، وأظهر حفظه الواسع وموهبته الأدبية فوجد تقديرا كبيرا، ولا سيما من علماء الشام، أمثال المفتي عبد الرحمن العمادي والوجيه أحمد بن الشاهين، وطارت شهرته كمدرس في الأزهر والجامع الأموي فهرع إليه علماء كل بلد وأعيانها على نحو وصفه المحبي وصفا شيقا (٢)، فلا داعي لتكراره هنا، وقد زوجه السادة الوفائية بمصر من ابنتهم على نحو لا يفعلونه مع كل الناس، ولكن


(١) عن كتبه الدينية انظر الفصل الأول من هذا الجزء.
(٢) المحبي (خلاصة الأثر) ١/ ٣٠٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>