للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المجتمع لم يكن قد وصل بعد إلى مرحلة (المجتمع الوطني) الذي نتحدث عنه اليوم. ولكنه كان بالروابط الموحدة دينيا وسياسيا وخلقيا ولغويا، قد وصل إلى مرحلة المجتمع الواعي المتماسك والمتجاوب. وكانت هناك العادات والتقاليد، المبنية بدورها على التشريع الإسلامي، التي تشكل عامل وحدة قوية في المجتمع. والذي يدرس كتابا مثل (المعيار) للونشريسي (١)، وأحكام القضاة ومجالس الفتيا وكتابات الأدباء والاجتماعيين خلال العهد الذي ندرسه يدرك أن هناك ذوقا عاما وقيما مشتركة وأحكاما ومقاييس أخلاقية وروحية يستند إليها الناس في حياتهم اليومية مهما علت مراتبهم أو بعدت منازلهم. وهذه الظاهرة وحدها كافية للدلالة على وجود المجتمع الجزائري الموحد خلال العهد العثماني.

فإذا عدنا إلى دراسة خلايا هذا المجتمع وجدنا العثمانيين يأتون في أعلى السلم (من الباشا إلى اليلداش) وكانوا، كما عرفنا، يحتكرون السلطة، فمنهم الباشوات والوزراء والبايات ورؤساء البحر أو الرياس والأغوات أو قواد البر، كما كان منهم أعضاء الديوان أو البرلمان. ولا يكاد يخلو مصدر عن العهد العثماني، معاصر أو غير معاصر مسلم أو غير مسلم، دون أن يصدمه شيوع الرشوة والفساد والجور والانحراف والظلم والاستغلال الشنيع الذي كان يمارسه العثمانيون في الجزائر. فهم، كفئة متميزة وممتازة، كانوا ينظرون إلى السكان نظرة استعلاء واحتقار وازدراء. وكانت الرشوة وجمع الأموال عن طريقها هي أساس العلاقات فيما بينهم ثم بينهم وبين السكان.

ولا يكاد يعين أحد في منصب أو يرقى إلى وظيفة إلا إذا رشى الباشا وحريمه ووزراءه وكبار الموظفين، وهلم جرا.

وكانت زيارة الدنوش التي يقوم بها البايات للعاصمة كل ثلاث سنوات والزيارة التي يقوم بها خلفاؤهم كل نصف سنة، من مظاهر الرشوة والمهاداة


(١) يمتلئ كتاب (المعيار) بتفاصيل هامة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والروحية في المدن والريف. انظر الفصل السابق.

<<  <  ج: ص:  >  >>