وهكذا مر القضاء الإسلامي في العهد الفرنسي بأطوار سنعرفها.
ولقد أضعف الفرنسيون جهاز التعليم منذ البداية فأهملوا المدارس والمدرسين واستولوا على الأوقاف، ووضعوا أيديهم على المكتبات والكتب، وراقبوا مواد التدريس وتحكموا فيها، فكان التعليم (التدريس) أول ضحية لإدارة الاحتلال التي شعرت بعدم الحاجة إليه مطلقا ما دام يتعلق بالمسلمين.
بينما تحكم الفرنسيون في شؤون الديانة وحاولوا أن يجدوا موظفين يواصلون الصلوات بالناس ويقرأون على الأموات ويباركون أو يبررون الأعمال التي تقوم بها الإدارة، وكان قادة الفرنسيين يعتقدون أنهم بذلك قد حافظوا على (الدين المحمدي) كما نص عليه اتفاق يوليو ١٨٣٠، فكأن الدين الإسلامي عندهم هو فقط الصلوات وأوجه العبادات الأخرى، وقد استغلوا هذا السلك استغلالا شنيعا حتى كانوا لا يعينون فيه إلا من لا يروف خطرا عليهم، وهم أضعف رجال الدين وأكثرهم انقيادا، وبالتدرج انقرض هذا الجيل وجاء بدله جيل آخر تخرج من المدارس الشرعية الفرنسية الثلاث التي كان التعليم فيها موجها ومتواضعا سيما أمام انحطاط الوضع الثقافي وإهمال التعليم العمومي.
وهذه المدارس الشرعية - الفرنسية هي التي أصبحت تخرج القضاة أيضا على المقاس الفرنسي، وأول شروط هذا المقاس هو معوفة الفرنسية وشيء من الفقه على قواعد مختصر الشيخ خليل والرسالة لأبي زيد القيرواني، وشيء من النحو في مستوى الآجرومية وقطر الندى، أما القاضي المتعمق في التراث الفقهي والعارف بالتفسير والحديث وأصول الفقه والمذاهب الإسلامية، والدارس للتاريخ الإسلامي والمدارس الفكرية فيه، فلا حديث عنه في العهد الفرنسي إلا ما شذ وندر وبجهود شخصية محضة، ثم إن هؤلاء القضاة قد سلبوا من اخمصاصهم من قبل القضاة الفرنسيين، فلم يعودوا مؤهلين للحكم في الجنايات ولا في المسائل التجارية ولا حتى في