وهناك ظاهرة أخرى في هذا السلك الديني كانت شائعة في القديم وظلت موجودة حتى في العهد الفرنسي، ولكن بدرجة أقل، ونعني بها تداول أفراد الأسرة الواحدة على نفس المنصب الديني، فابن الحفاف طالب (بحقه) في وظيفة جامع سيدي رمضان لأن والده كان موظفا فيه، وحميدة العمالي اقترح ابنه (علي) كمؤذن في الجامع الذي كان مفتيا فيه، وعندما مات الشيخ محمد الحرار طالب المفتي بتعيين ولده (ولد الحرار) ليحل محل والده في المسجد الذي كان تحت يده، ويقول المفتي بصراحة:(وعادة بلادنا من له مسجد وخلف ولدا يقرأ القرآن، فهو أحق به من غيره)، وظلت هذه الظاهرة متواصلة أيضا، فنحن نجد محمود بن الشاذلي قد خلف والده في المدرسة بقسنطينة، وعبد الحليم بن سماية قد خلف والده في مدرسة الجزائر، وخلف أحمد بن زكري والده في مهنة التدريس، وهكذا، إن هذه الدائرة الضيقة للسلك الديني (والتعليمي أيضا) قد أضرت بالمستوى العام من جهة وجعلت الفرنسيين ينظرون إلى دور رجال الدين نظرة استهزاء وسخرية، ولم يكن يهمهم الأمر ما دام ذلك يجلب إليهم الراحة والأمن، ذلك أن الابن عادة سيقلد والده في سلوكه نحو الفرنسيين أصحاب النعم السابغة على العائلة، وبذلك يتكرس ضعف المستوى وضعف الضمير، ومن ثمة ضعف الدور الأجتماعي للسلك الديني.
وهذا التضييق في دائرة التعيين وقلة الفرص أمام رجال السلك الديني جعلتهم متحاسدين متباغضين أيضا، وكانوا يحرسون بعضهم البعض ويشون ببعضهم إلى السلطات الفرنسية التي كانت تحب ذلك منهم وتعتبره علامة إخلاص وكفاءة، فإذا تولى أحدهم وظيفة أخرى شنعوا عليه وطلبوها منه واتهموه بأنه يملك كذا وكذا غيرها، ونذكر نموذجا على ذلك شكوى ابن الحفاف، قبل ولايته الفتوى، من القاضي قدور بن المسيني الذي استولى على وظيف جامع سيدي رمضان إلى جانب وظيف القضاء وغيره، وفي مراسلات هؤلاء الرجال مع السلطات الفرنسية نماذج عديدة لما نقول.