وكانوا في مراسلاتهم مع الإدارة الفرنسية يتزلفونها بطريقة مهينة لهم، فالواحد منهم يتذلل في طلب زيادة الراتب، أو قبض راتب متخلف، أو طلب الإذن في كذا، ولم يكونوا يفكرون أنهم يمثلون العلم والدين، أو أنهم رموز للشعب المحكوم، أو نحو ذلك من التفكير العالي، وكانوا يستعملون لذلك ألقاب المدح الذليل للحاكم أو مدير الداخلية أو غيرهما، ولم تكن المراسلات إدارية محضة بل فيها من التكلف المعنوي واللفظي ما يؤدي إلى التقزز أحيانا، خذ مثلا على ذلك طلب المفتي الحنفي أحمدبن محمد من مدير الداخلية دفع مخلف الزيادة المترتبة على ترقيته منذ وقت الترقية، ولنتأمل في ألفاظها التذلل وعبارات التواضع السخي، فقد عبر عن سروره بزيادة الراتب (الذي نقبضه من حضرتك الرفيعة ... كثر الله خيرك وشكر سعيك وأطال عمرك ... نطلب منك ومن جزيل فضلك صاحسانك أن تنعم وتتفضل علي بالزيادة الماضية من وقت التاريخ السابق، أو كما يظهر لك، لأن الحاجة قد دعتني إلى ذلك، والطلب من سعادتك، هذا ولا يخفى على سيادتك، وأنت عالم بهذا، وأنا قصدتك، وأنت من عادتك وحسن طبعك ومودتك، (ان) من قصدك لا يرجع خائبا، وعليك ألف سلام) (١).
إن الجهل العلمي والسياسي هو الذي أدى بهذا المفتي إلى أن يريق ماء وجهه بهذه الطريقة، فلو كان يعلم أن مدير الداخلية لا يعطيه إلا ما أخذه منه، وأنه اغتصب أموال الأوقاف وجعلها تحت يده وأصبح يمن بها، لما مد المفتي يده على النحو المذكور، ولو كان المفتي يحترم علمه لأكرم لحيته بنفسه وعرف قدره، فالمفروض أنه قدوة لغيره في الهمة والشبوب والشفوف، وعزة النفس، ولكن الجهل وتغير الحال أدى إلى تغير الرجال، ولا تقل إن هذا كان في الأربعينات من القرن الماضي وانتهى، فقد وجدنا المتذللين يطلبون بنفس الطريقة تقريبا في آخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن.
(١) مراسلة بتاريخ ١١ مايو ١٨٤٧، أرشيف ايكس (فرنسا). انظر المراسلات في كتابنا (أبحاث وآراء ...) ج ٣.