بالجزائر فلم أفلح لكثرة شواغل الحياة وواجات الجامعة والطلبة والالتزامات العائلية وفقدان وسائل الاختلاء والتأمل. فكنت أتحرق أسفا على عدم قدرتي على مواصلة الكتابة. وطالما جلست في مكتبي في المنزل طارحا أوراقي أمامي متأملا فيها ماسكا القلم ثم لا يواتيني الخاطر لأسباب عديدة.
وأخيرا قررت طلب التفرغ من الجامعة لمدة سنة، وكان ذلك من حقي القانوني نفوافقت هي والوزارة على ذلك وعلى المنحة أيضا، وكاتبت جامعة منيسوتا بالولايات المتحدة الأمريكية فوافقت على استقبالي أستاذا زائرا وحملت معي أوراقي وسافرت بالعائلة. وقد مكنني قسم التاريخ بجامعة منيسوتا من مكتب خاص كما مكنتني مكتبة الجامعة من مكتب آخر وهناك طرحت أوراقي وجلست الساعات بل الشهور الطوال أكتب وأبحث إلى أن انتهيت من تسويد الجزءين قبل نهاية يونيو سنة ١٩٧٨ ولم يبق لي إلا نصف الفصل الأخير من الجزء الثاني (فصل العلوم والفنون) فأكملته في باريس في طريق عودتي إلى الجزائر.
وكنت أعرف أن الكتاب على ذلك النحو يحتاج إلى مراجعة طويلة وصياغة وإضافات وحذف ونحو ذلك وأن ذلك لا يمكن القيام به أيضا إذا استأنفت عملي في الجزائر. فطلبت من الجامعة تمديد تفرغي سنة أخرى للمراجعة فوافقت كما وافقت الوزارة على التفرغ والمنحة وعدت إلى الولايات المتحدة ضيفا هذه المرة على جامعة ميشيقان التي سهلت لي هي أيضا مهمتي. وقد استغرقت مني عملية المراجعة حوالي ستة أشهر. وكلما وجدت فرصة كنت أجمع أيضا مادة الجزء الثالث. فليس من الغريب إذن أن أكتب أكثر عملي خارج الجزائر، لأن الباحث لا يحتاج فقط إلى لقمة العيش بل يحتاج إلى المكان المناسب والزمان المواتي والجو المستبشر. ومن نافلة القول أن أضيف بأني استكملت فراغات كثيرة في البحث لم أكن قد تنبهت إليها من قبل سواء من المصادر الكثيرة التي تحتوي عليها مكتبتنا جامعة منيسوتا وميشيقان أو من طريق تصوير المخطوطات التي تهمني من جامعة برنستون ومكتبة الكونغرس الأمريكي وغيرهما أو من مراسلاتي مع بعض الباحثين.