ثم انتقل الأمير إلى المشرق حيث كان يرغب منذ الهزيمة سنة ١٨٤٧ لولا خيانة العهد من جانب الفرنسيين. وقد نزل اسطانبول (الآستانة) وجرى له حفل بحضور السلطات العثمانية، وكانت السفارة الفرنسية هناك تظهر الاحتفاء به أيضا. وبعد أيام استقر في بروسة بعائلته وأقاربه. ولكنه لم يلبث أن شعر بالعزلة، فلا هو في الحجاز ولا هو في سورية أو في مصر. إنه كان في مدينة بعيدة عن الأجواء العربية والكتب والصحف والعائلات الشريفة والمهاجرين الذين سبقوه إلى المشرق. ولم تتح الفرصة لطلب الانتقال إلا سنة ١٨٥٥. فقد كانت حرب القرم جارية وكانت العلاقات بين الدولة العثمانية وفرنسا ودية إلى حد ما. وحدث في نفس السنة زلزال في بروسة. فطلب الأمير السماح له بالانتقال إلى دمشق والاستقرار فيها. ولا ندري هل وسط في ذلك نابليون الثالث أو وجه الطلب مباشرة إلى السلطات العثمانية.
انتقل الأمير إلى دمشق عبر بيروت. وقد مر بزعماء الدروز وقراهم واحتفوا به هناك أيما احتفاء. وكان الأمير قد زار دمشق برفقة والده قبيل الاحتلال الفرنسي للجزائر. وهل كان اختياره لدمشق بالذات بإغراء من المهاجرين الجزائريين الذين سبقوه إلى هناك؟ ولماذا لم يقصد الاستقرار في بغداد حيث ضريح شيخه عبد القادر الجيلاني الذي زار قبره أيضا مع والده قبل الاحتلال وحمل إليه المال ونال منه البركة؟ الغالب أن المهاجرين هم الذين أغروه بالإقامة في دمشق (١).
في دمشق وجد الأمير جوا كجو الجزائر، وطبيعة كطبيعة معسكر. وشعبا. عربيا، مسلما، عطوفا ومعجبا بجهاده وشرفه وقوميته، فاحتضنه، والتحم الأمير مع أهل الشام حتى أصبح واحدا منهم. وتفرغ للعلم والتدريس والتصوف. وفتح داره للزائزين والمحتاجين والعلماء. وأصبح مهوى الأفئدة ومطمح الأنفس. وبعد أربع سنوات تقريبا كادت تقع فتنة في الشام بسبب
(١) كان قد اشترط على الفرنسيين عند مفاوضته معهم في ديسمبر ١٨٤٧، أن يتركوه يختار الإقامة فى عكا أو الحجاز أو الإسكندرية.