وكان البيان الذي أصدره الفرنسيون للجزائريين عشية الحملة يسير في هذا الخط (١). وكانوا معتمدين على أن الحضر، وهم البرجوازية المتسيسة والراغبة في الحكم قياسا على المجتمعات الأوروبية، سيتعاونون معهم لفك قيود الحكم (التركي) وتولي السلطة بدلهم. وقد نجحت هذه الخطة مع سكان العاصمة إلى ٥ يوليو ١٨٣٠، ساعة احتلال القصبة واستيلاء الجيش الفرنسي على الحصون والقلاع. ذلك أن أعيان الحضر هم الذين ضغطوا على الداي ليفاوض بشروط ولينقذ المدينة من الدمار. ولم يكن الباشا ولا الأعيان عندئذ يفكرون في مصير الأجزاء الأخرى من الوطن. ويبدو أن الحضر كانوا يعتقدون أن الفرنسيين سيبرون بوعدهم ويجلون عن الجزائر بعد عزل الداي وتنصيب (أمير) آخر مكانه. ولم نعرف أن الداي قد شاور قادة الأقاليم وشيوخ الأوطان وأعيان البلاد في مصير الجزائر قبل أو بعد استسلامه للفرنسيين، أو أنه تنازل لأحدهم ليحكم بعده، أو فكر في الانتقال إلى عاصمة إقليمية أخرى ليقود المقاومة. فقد كان كل انشغاله وانشغال زعماء الحضر عندئذ هو إنقاذ العاصمة من التدمير بأخذ الفرنسيين لها عنوة.
وبدأ عيث وعبث الفرنسيين بالعاصمة وأهلها حتى قبل أن يخرج منها الداي. وأخذ الحضر يشاهدون من الفرنسيين ما لم يكونوا يتوقعون أبدا: اغتصاب المنازل، وانتهاك المساجد، ونهب التحف، وسلب المال، مع الشتائم والإهانات. وكان أول رد فعل لذلك هو خروج الآلاف من العاصمة إلى الأماكن القريبة أو الذهاب عند الأقارب في المناطق المجاورة، انتظارا لإنجلاء الموقف. ورأى بعض أعيان الحضر أن أخف الضررين هو التعاون مع العدو في تسيير المدينة، فشاركوا في أول لجنة بلدية وبعض المصالح الأخرى الثانوية، معتمدين على شروط الاتفاق الذي وقع بين الداي وقائد الحملة ومحتجين به على الفرنسيين. وحين رأى هؤلاء شكوك الحضر بهم أخذوا يميلون إلى التعامل مع اليهود ضدهم، وكان اليهود من سكان العاصمة
(١) نشرنا هذا البيان وقدمنا له وعلقنا عليه في كتابنا أبحاث وآراء، ج ١.