أن المعلم هنا (أو المدرس، كما كان يدعى) كان من المحظوظين لأنه استطاع أن يصل إلى هذا المستوى من التعليم، وكان عليه، لكي يشق طريقه إلى ذلك، أن يصارع كثيرا من الخصوم وأن يجتاز عددا من العقبات، وقد كان أكبر خصومه هم أصحاب مهنته، وأهم العقبات في وجهه هي اكتسابه رضى الباشا أو الباي، ذلك أن المؤدب لم يكن يشترط فيه سوى شروط قليلة، أما المدرس فشروط تأهيله كثيرة. ومن جهة أخرى كانت ميادين التعليم ضيقة والتنافس عليها شديدا. وإذا كان المؤدب حرا نوعا ما يختاره أهل الحي لتعليم أطفالهم فإن مدرس الثانوي والعالي لم يكن حرا، وخصوصا في المدن، فهو موظف عند الدولة بحكم تعيينه من الباشا أو الباي، لذلك فإن عليه ما على جميع الموظفين الآخرين من رقابة وقيود ومن واجبات دينية واجتماعية وسياسية أحيانا، ولعل ارتباط المدرسين بالدولة على النحو المذكور هو الذي حدا ببعضهم إلى القول (بتحريم التدريس) في وقته (الذهاب شرطه)(١) أما في الأرياف فرجال الدين والعلم، وخصوصا أهل الصلاح والولاية (المرابطين)، كانوا يتخذون من التعليم وسيلة لجلب الناس والطلبة إلى زواياهم واعتناق مذاهبهم الصوفية واكتساب المال والصدقات والأحباس، وكان التنافس هنا قويا أيضا لأن كل مؤسسة كانت واقعة تحت سيطرة شيخ الزاوية أو المقدم يساعده في ذلك أبناؤه وأتباعه.
ولما كان التعليم غير مربح ولا مرغوب فيه عند الكثيرين فإن بعض المتعلمين قد اتخذوا من التجارة حرفة بدلا منه، وقد لاحظ الحسن الوزان (ليون الإفريقي) غلبة الفقر على طلبة تلمسان أوائل القرن العاشر، ومعنى ذلك أن مهنة التعليم كانت لا تفي بحاجتهم المعاشية، ولاحظ التمغروطي أن طلبة الجزائر كانوا ماديين، وهو يعني أنهم كانوا لا يهتمون بالتعليم كمهنة بل كانوا يلجأون إلى غيره لكسب الرزق واستقرار المعيشة. فقد قال عن مدينة
(١) نسب هذا القول إلى الشيخ أحمد التجاني مؤسس الطريقة التجانية، ورواه عنه عباس بن إبراهيم في (الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام) ٥/ ١٩٨ عن الدرعي. انظر عن أحمد التجاني الفصل الأخير من هذا الجزء.