للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجزائر كما زار فرنسا زيارات قصيرة زادت من قناعاته بخطر الاستعمار والتمييز العنصري. وعمل فترة في تبسة ثم في آفلو بالجنوب الغربي من الجزائر. وكل هذه الأعمال كشفت له عن حقائق مذهلة: جبروت الاستعمار وذلة الأهالي، وتناقض الشخصيات الموظفة ونفاقها: فالقاضي كان سكيرا، ورجل الطريقة الصوفية كان دجالا، والناس يغيرون جلودهم كل يوم، فهذا يتحول من مفسد إلى مصلح، وذلك عربيد ولكن قلبه نقي كالثلج، وهذا يتظاهر بما ليس فيه فهو وطني من جهة ومخبر للإدارة الاستعمارية من جهة أخرى. وهناك التنافس الحقير بين رجال الدين الرسميين ورجال الدين الأحرار ورجال التصوف. ولا تسأل عن نفاق الزعماء السياسيين سواء كانوا من مدرسة الاندماج أو من مدرسة الاستقلال. ولكن ابن نبي وجد عزاءه في صفاء النفس لدى المواطنين العاديين وبساطة عيشهم وبقائهم على الفطرة في حديثهم وكرمهم وسلوكهم. إنه المواطن نفسه في ريف تبسة وفي ريف آفلو. ذلك الإنسان الذي رغم ما أصابه من ظلم وتعسف من الإدارة الفرنسية ما يزال محتفظا برصيده الأخلاقي والتراثي والإنساني.

ومع الاحتفال الفرنسي بالذكرى المائوية للاحتلال (١٩٣٠) غادر ابن نبي الجزائر إلى فرنسا ليدرس. وقد ترك أهله ووطنه واغترب معتقدا أن فرنسا بلد ثورة ١٧٨٩، كما كان يعتقد فرحات عباس وأمثاله. فإذا كل ذلك كان حكايات في الكتب المدرسية والخيال، أما الواقع فقد كان يعامله كأهلي من (المستعمرة) الجزائر. كشفت له عن ذلك الامتحانات والمسابقات التي كان يشارك فيها والنشاط الذي كان يقوم به في الجمعيات والنوادي. ولكن شخصيته كانت تتكون من كل هذه المكونات. درس في النهاية بمدرسة اللاسلكي. وتزوج من فرنسية اعتنقت الإسلام وتسمت باسم (خديجة). وشارك في أنشطة طلبة شمال افريقية.

واكتشف العالم الآخر من خلال شخصية المستشرق ماسينيون الذي وظفته دولته ليكون عينها على أبناء المستعمرات وعلى القضايا العربية والإسلامية، ومن خلال أولئك الانشقاقيين الجزائريين الذين باعوا أنفسهم

<<  <  ج: ص:  >  >>