ولم يكونوا يقومون بحقها حق القيام، بل إن معظمهم كانوا ينظرون إليها على أنها مكسب للرزق ومطلب للجاه. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على ضعف العلم وضعف أخلاق العلماء أيضا.
ولم يكن الإفتاء وظيفة رسمية قبل العثمانيين. فقد كان العلماء قبلهم يستشارون في المسائل الفقهية وغيرها كأساتذة وشيوخ علم وليسوا كموظفين ملحقين بمصلحة من المصالح في الدولة. فكان العالم إذا اشتهر أمره بين الناس وشاع عنه الورع والنزاهة والتمكن من العلم تتوافد عليه الأسئلة من الجهات الشعبية والرسمية فيسجلها عنده ويجيب عنها بما توصل إليه علمه مضيفا إليها عبارة (والله أعلم). وقد وجدنا من هذه الآثار نوازل وفتاوي كتبها علماء كانوا مرجعا في عهدهم وعاشوا قبل العهد العثماني. ولم يكونوا موظفين. لدى ولاة زمانهم. ومن ذلك نوازل المازوني (الدرر المكنونة في نوازل مازونة)، وفتاوي الونشريسي التي ضمنها موسوعته (المعيار). وكان المذهب الذي يفتي به هؤلاء العلماء هو مذهب الإمام مالك لأنه المذهب الذي كان يتبعه جميع السكان باستثناء أتباع المذهب الإباضي.
ولما جاء العثمانيون أحدثوا تغييرات في هذا النظام. فقد جعلوا الإفتاء وظيفة من الوظائف الرسمية. ورغم أنهم كانوا كبقية السكان من أهل السنة فإنهم جعلوا الفتوى على مذهبين: مذهب الإمام أبي حنيفة، ومذهب الإمام مالك. وجعلوا المذهب الأول هو المذهب الرسمي، لأنهم كانوا أحنافا، ولكنهم لم يتدخلوا في المذاهب الأخرى. ونظرا لعدم وجود علماء أحناف في الجزائر قبل العثمانيين، ونظرا لعدم الثقة الكاملة سياسيا في علماء الجزائر، فإن سلاطين آل عثمان كانوا يعينون الباشا وكذلك القاضي الحنفي مدة سنتين في أغلب الأحوال، ويرسلونهما لتمثيلهم في الجزائر، الأول يمثل السلطة السيفية، والثاني يمثل السلطة العلمية (وهذان التعبيران كانا شائعين
= (التحفة المرضية) أن الباشا محمد بكداش قد (أجبر) الشيخ محمد بن أحمد البوني على قبول الإفتاء رغم اعتذاره، ص ١٧٤. وهكذا نرى أن المعتذرين عن هذه الوظيفة قد وجدوا ولكن بقلة.