وكما نشاهد اليوم في المجال السياسي سباقا لدى المواطنين للانتساب للثورة، جهويا وإقليميا ووطنيا، فكذلك نشهد سباقا ربما أشد منه في المجال الثقافي، فكل عشيرة أو بلدة أو مدينة تحاول أن تتبنى عالما أو شاعرا أو فنانا أو روائيا على أنه أحد أبنائها، فتخرجه من قبر العصور، (إذا كان قديم العهد)، وتنفض عنه غبار الإهمال (إذا كان حديث العهد)، وتقدمه للناس وللإعلام على أنه علم الأعلام ومصباح الظلام في مهرجانات (ثقافية) ترصد لها الأموال الطائلة والتفاخر الفارغ، دون تسجيل أو طبع ما يلقى في المهرجان حتى يبقى الباب مفتوحا لتكرار التوسل إلى الناس والإعلام مرات ومرات.
إذن، لم يكن تناول التاريخ الثقافي قضية سهلة كما قد يتخيل البعض، ولعل أبرز قضية تواجه الباحث في هذا الخصوص هي مدى وفاء المثقفين للثوابت الوطنية، تلك الثوابت التي حصنت الجزائر عبر العهد الاستعماري من الذوبان والتحلل في البوتقة الأجنبية، ونعني بها الإسلام واللغة العربية والانتماء الحضاري للعروبة، فقد لاحظنا أن الشعارات والرموز والمطالب العامة كانت لا تخرج في البداية عن هذه الثوابت، ولكن هذا الالتزام لم يبق على حميته الأولى بل أخذ يضعف بالتدرج وحلت محله لغة التشكيك والمساءلة والعلمانية المفرطة التي وصلت في نهاية المطاف إلى تبني الاشتراكية العلمية، كما جسدتها الوثائق والنصوص تحت تأثير الصراع الإيدولوجي بين الشرق الاشتراكي والغرب الاستعماري الرأسمالي، وتأثير الجيل الجديد المتعلم في المدارس الغربية ولا سيما الفرنسية، وهو الجيل الذي (استولى) على مقاليد أمور الثورة في الخارج أولا ثم أمور البلاد كلها في الداخل منذ الاستقلال، هذا الجيل كان في الواقع يجهل الثوابت الوطنية لأنه لم يتعلمها في مدرسة ولا في حزب وطني، فتغلبت عليه الأنانية حين رأى أنه هو وحده الذي يمثل النخبة القائدة في البلاد وأنه أقرب ثقافيا إلى الفرنسيين منه إلى مواطنيه الجزائريين.
ومن جهة أخرى فإن نصوص الثورة نفسها أخذت تتنكر للثوابت الوطنية.