كان من أجل البحث عن الأتباع وضمان لقمة العيش وليس من أجل رفع مستوى التعليم أو المساهمة في ترقية الحياة الفكرية. ولا شك أن التعليم الذي يقوم على هذه الأسس لا يترك مجالا للاجتهاد وحرية الرأي والبحث وراء المجهول وإعطاء تفسيرات حرة وفلسفية لقضايا الدين والعصر (١). وهكذا اكتفى العلماء بالشقشقة اللفظية والاقتصار على الفروع دون الأصول. وبينما كانت الأديرة في أوروبا في موقف دفاع عن نفسها أمام تقدم العلم أصبحت الزوايا في الجزائر (وفي بقية العالم الإسلامي) في موقف الهجوم. ولذلك لا نستغرب أنه عندما كانت شمس المعرفة في أوروبا تطل من وراء السحاب كانت شمس المعرفة في الجزائر تفر غاربة وسط ضباب كثيف.
ويعتبر محمد بن يوسف السنوسي وعبد الرحمن الثعالبي من أكبر زهاد وعلماء القرن التاسع. فقد جمع كل منهما بين الإنتاج العلمي والسلوك الصوفي وانتفع بكل منهما خلق كثير، وكان لهما تأثير كبير على معاصريهما وعلى اللاحقين منهم. ورغم شهرة كليهما ومكانته فإن كلا منهما كان يحث على العزلة والهروب من الدنيا وعلومها والاهتمام بعلوم الآخرة والتفرغ لها. ويجد دارس حياة كل منهما نموذجا للعالم الزاهد الذي استعمل علمه لا لنقد أحوال الناس المعاشية والتنبيه على نقاط الخطر في المجتمع بل لدعوة هؤلاء الناس إلى الهروب إلى الآخرة والصبر على ما كانوا يجدونه من ظلم السلطان وسوء الأحوال. وقد رويت عن كل منهما أخبار ونصائح ومواعظ بعضها صحيح وبعضها مكذوب ولكنها جميعا صورة لعقيدة الناس في القرن التاسع وما بعده. وإذا كانت رسالة الثعالبي في الجهاد تعدل قليلا من حكمنا عليه فإن حكمنا على السنوسي يظل هو هو. فقد نصح معاصريه بالعزلة قائلا:(إن الواجب فيه (يعني عصره) قطعا لمن أراد النجاة، بعد تحصيله ما يلزم من العلم، أن يعتزل الناس جملة ويكون جليس بيته ويبكي على نفسه ويدعو دعاء الغريق، لعل الله سبحانه أن يخرق له العادة بفصله عن هذه الفتن