للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وللرعاة على التغلب على الوحدة وجذب قطعان الماشية وللأطباء على مداواة مرضاهم، كذلك كان رجال التصوف يستعملون الموسيقى لإثارة الوجد وتحريك العواطف والتسامي بها نحو درجات النشوة والسكر بدون خمر. وقد مر بنا أن الشيخ محمد ساسي كان يستعمل في حضرته الإنشاد والأشعار والموسيقى في جماعة بالإضافة إلى التصفيق والغناء والرقص. كما عرفنا أن الشيخ بلغيث كان يستعمل الآلات الموسيقية بيده. وربما اتخذت بعض الطرق الصوفية مداحين يمدحونها بالأشعار الملحونة ويشيعون أمرها بين الناس والغناء بذلك في محلات عامة كالمقاهي ونحوها. فقد قيل إن الشيخ أبا القاسم الرحموني الحداد كان يمدح الطريقة الرحمانية والحنصالية بأشعاره التي كان يرددها في المقاهي ونحوها حيث الحشاشون والندمان (١). وقد ذكر الفكون في كتابه المشار إليه أن بعض أدعياء التصوف كانوا يتناولون الحشيشة والدخان والقهوة، وأن بعضهم كان يصرح في شعره بألفاظ الخمر والدنان (٢). ويكاد يكون من المتفق عليه أن المتصوف يميل إلى التقشف والتضحية بملذات الدنيا في سبيل اللذة الأخرى التي يسعى إليها. فهو لا يأكل المرققات والمحشيات ولذيذ الأطعمة والأشربة، وإنما يكتفي من الطعام بما يقيم الأود ويسد الرمق من كسرة الشعير وشرب الماء القراح. كما كان المتصوف لا يلبس الثياب الفاخرة ولا المطرزات ولا المذهبات ولا الخواتم ونحوها. وكل ما كان يعنيه من ذلك ثياب متواضعة تقيه غائلة الحر والقر كالغرارة المرقعة والعمامة البالية والحذاء الخشن. وتلك كانت الصورة المتبادرة إلى أذهان الناس عن أهل التصوف في العهود المتأخرة، وهي صورة تقربهم إلى الدراويش والمجاذيب (وأهل الله)، وليست بالطبع هي صورة المتصوف الحقيقي كما رسمها الغزالي أو أبو الحسن الشاذلي وغيرهما من كبار رجال التصوف المعتمدين على المعرفة العلمية. فهناك إذن فرق بين صورة المتصوف العالم وصورة المتصوف الدرويش، ولسوء الحظ أن كثيرا


(١) كور (عن قصيدة الرحموني) في (المجلة الإفريقية) ١٩١٩.
(٢) انظر عن موضوع الموسيقي فصل العلوم والفنون في الجزء الثاني.

<<  <  ج: ص:  >  >>