أن جعل (الأدب ريحانة للشم، وقلد البلغاء قلائد العقيان في النثر والنظم)، فإن عمله أقرب إلى التاريخ منه إلى الأدب، ولذلك فضلنا أن ندرس كتابه في فصل التاريخ، أما النواحي الأدبية من الكتاب فهي شكله وأسلوبه. فقد جعله ابن ميمون على شكل المقامات، والمقامة من أنواع الأدب، كما أن أسلوبه مسجع رقيق، أما عنصر الحكاية والخيال الضروري للمقامة الفنية فيكاد يكون منعدما عند ابن ميمون، لقد حاول أن يجعل كل مقامة عبارة عن وحدة قصصية تخص موضوعا معينا، ولكنه كان مجبرا، وهو يتناول شخصيات تاريخية وأحداثا واقعية، أن يكتب التاريخ لا الأدب وأن يسجل الوقائع لا الخيالات: أليس هو القائل عن كتابه (ولم آل جهدا في تنقيحه، وتأليفه من صادق الخبر وصحيحه، على ما تجده من ألفاظ لغوية، وأنواع بديعية، وأخبار مستلمحة، وكتابات مستملحة)؟ (١)، فاعتماده صادق الخبر ومعاودته تأليفه بالتنقيح هو عين منهج التاريخ.
وأقرب مثل إلى المقامة التقليدية مقامة أحمد البوني المسماة (إعلام الأحبار بغرائب الوقائع والأخبار)، وكان البوني قد كتبها سنة ١١٠٦، وموضوعها هو علاقة العلماء بالسلطة والاستنجاد بصديقه مصطفى العنابي، والشكوى من وشايات أهل العصر، وهي بدون شك تقرب في أسلوبها وطريقتها من أسلوب وطريقة المقامة المعروفة، وفيها كثير من الخيال والإغراب والتهويل، ولكنها مع ذلك تقص أمرا واقعا وتذكر أشخاصا حقيقيين، وتقع المقامة في أربع صفحات، وهي تبدأ هكذا (الحمد لله الذي جعل المصائب وسائل لمغفرة الذنوب، والنوائب فضائل لذوي الأقدار والخطوب، وسلط سبحانه وتعالى على الأشراف، أرباب الزور والفجور والإسراف .. وبعد، أيها العلماء الفضلا، النبلاء الكملا، فرغوا أذهانكم، وألقوا آذانكم، وتأملوا ما يلقى إليكم من الخبر الغريب، وما يرسله الله تعالى على كل عاقل أريب، فقد ارتفعت الأشرار، واتضعت أربات المعارف