وغيرها حين قال إنه زار سنة ١١٢٨ قارة حصار، مسقط رأس جده، كما أخبر عن نفسه أنه زار قبر حسين ميزو مورتو في جزيرة شيو (١). ولا ندري أين حملته رجلاه أيضا، فلعله قد زار إسطانبول وسورية (التي قال إن الجزائر تقارن بها في الثروة) كما قد يكون حج وزار مصر وغيرها. ولكنه لا يذكر هو نفسه سوى مسقط رأس جده وقبر الباشا ميزو مورتو في شيو.
إن هذه الخلفية عن حياة وأسرة ابن المفتي تعطى فكرة عن عمله أيضا. فهو كرجل من رجال الدولة والعلم جدير بأن يكون نافذ الملاحظة وثيق المصدر. وقد اعتمد في تأليفه على مصادر عديدة منها المكتوب ومنها الشفوي ومنها التجربة الشخصية. فأسرته كانت عريقة في خدمة الدولة، كما لاحظنا، ولا شك أنه كان يملك الوثائق الرسمية النادرة التي كانت لجده ووالده. وكان له شيوخ بارزون وأصدقاء في مقام عال في المجتمع والحكم. ومن مصادره جدته لأمه التي كانت تخبره ببعض حوادث القرن السابق له (القرن الحادي عشر)، بالإضافة إلى ما عاشه هو من أحداث وما شاهده من أمور وسجله من ملاحظات. ونفهم من مقدمة كتابه أنه عاش حتى كبرت سنه ونضجت تجربته. كما نفهم منها أنه قد فقد أسرته وأطفاله وبقي وحيدا يعاني الوحدة والحزن والكبر. وهذا أقسى ما يصيب الإنسان في آخر عمره.
فقد ذكر أن الوحدة والحزن والكبر وفقد الأولاد هي التي دفعته إلى تقييد ما قيد. ولم يكن دافعه الشهرة أو التشهير بأحد، بل ولم يكن التأليف العلمي من هوايته، وإنما أراد التسلي والتأسي، والاشتغال بشيء ينسيه، مؤقتا على الأقل، بعض حزنه وشعوره بالوحدة، فكان هذا الشيء هو العمل الذي نحن بصدده والذي تناوله الكتاب المذكورون بطريقة مبعثرة كما لاحظنا. والغريب أيضا أن ابن المفتي الذي أخفى اسمه، تواضعا أو لسبب آخر لا نعلمه، لم يجعل عنوانا لما قام به أيضا. ولعل أقرب إلى الصواب
(١) تولى باشوية الجزائر سنة ١٠٩٤، ثم هرب بحياته بعد أكثر من ست سنوات إلى شرشال ومنها ركب البحر إلى إسطانبول حيث أصبح قبطان الأسطول العثماني، وقد استولى عل جزيرة شيو، ودفن بها، حيث زار ابن المفتي قبره.