وبين أملاك الوقف. إن الأوقاف (الأحباس) كانت هي المصدر الأساسي للتعليم والمعلمين والمكتبات والمساجد والحركة العلمية على العموم. ومنذ اللحظة الأولى للاحتلال صادرت السلطات الفرنسية جميع أملاك الوقف وضمتها لأملاك الدولة الفرنسية المعروفة (بالدومين). ومن ثمة نضب معين التعليم والمعلمين وتوقفت الحياة العلمية وشغرت المساجد والمدارس والزوايا. وأصبح بعض رجال الدين موظفين عند الدولة الفرنسية تمنحهم إدارتها في الجزائر رواتب محددة بعد أن قل عددهم وتدجنت أفكارهم. وقد درسنا في فصل آخر موضوع الأوقاف ومال ريعها وحرمان المستفيدين منها بطريقة منافية لشروط الوقف. ولكن وجب التنبيه على ضرورة الربط بين هذا الفصل وذاك.
كل الذين درسوا موضوع التعليم في الجزائر غداة الاحتلال اندهشوا من كثرة المدارس وحرية التعليم وكثرة المتعلمين ووفرة الوسائل من أجل التعلم، كالمداخيل الوقفية، ومحلات الأوقاف والأجور العالية. وفي المدن كما في الأرياف كان التعليم جزءا أساسيا من حياة الناس. وكان المعلم والمتعلم موضع تقدير الجميع، وحب العلم كان جزءا من العبادة. كما اندهش أولئك من وفرة المدارس التي كانت تزيد ربما عن نسبة السكان. وكان التعليم حرا وخاصا ويكاد يكون مجانيا وإجباريا قبل أن تشرعه فرنسا لأبنائها بعد ١٨٧٣. فالسيد والمسود والحاكم والمحكوم كلهم سواء في البذل من أجل تعليم أبنائهم في ديموقراطية متناهية، إذ يلتقي أولاد الأغنياء وأولاد الفقراء على صعيد واحد ويتلقون نفس البرنامج على يد نفس المعلم، وبنفس اللغة والروح. وربما وظف الأغنياء معلمين (مؤدبين) خاصين لأبنائهم.
ولكن هذا الوجه المشع لصورة التعليم غداة الاحتلال لا يخلو أيضا من عيوب شأن كل التجارب الإنسانية. ونحن وإن كنا سنعرض إلى هذه العيوب فيما سيأتي، فإننا نبادر إلى القول بأن التعليم، كأهله، لم يتطور مع الزمان وحاجة الإنسان إلى التقدم والابتكار وتقليد التجارب الناجحة عند الشعوب